• Thursday, 25 April 2024
logo

الفيلسوف والمفكر المغربي محمد سبيلا لمجلة كولان: ليس من المقبول ولا يجوز سلخ الديمقراطية ولا آلية الأنتخابات أو نزعها عن ثقافتها وتراثها

الفيلسوف والمفكر المغربي محمد سبيلا لمجلة كولان: ليس من المقبول ولا يجوز سلخ الديمقراطية ولا آلية الأنتخابات أو نزعها عن ثقافتها وتراثها
عندما جرس الهاتف، أدركت أن مفتاح الأتصال هو لدولة المغرب، إلا أنني لم أتصور أن يكون الأتصال من الفيلسوف محمد سبيلا. لأنه لم يكن آنذاك قد مر سوى ساعات قلائل على أرسالي رسالة له.. ويبدو أنه قد لاحظ رقم هاتفي مع قرأءته لرسالتي الأكترونية.. فكان أن أتصل بنا بشكل مباشر ووجدنا أن هذا الفيلسوف الكريم قد قبل دعوة (كولان) لأجراء حوار مفتوح، إلا أنه ابلغنا بكل صراحة عدم تمكنه من كتابة أجوبتها عن طريق الكومبيوتر.
وعلى كل حال فإن الحديث أو الحوار مع هذا المثقف الكبير كان مبعث سرورنا غير أننا حرصنا على الا يكون مختصرا دون الخروج عن مجال(المفكر المعاصر) أو مزج اللقاء مع السياسة، أي عدم( تسييسها) إن صح التعبير بل كانت غايتنا بالدرجة الأساسي إجراء قراءة فكرية للأحداث السياسية. هذا فضلاً عن مسألة أخرى تعذر علينا الوقوف عندها كما يجب، وهي التعمق في المفاهيم الفكرية المعاصرة.. وكنا على يقين من أننا إذا ما تعمقنا مع هذا الفيسلوف في جملة المفاهيم فأنه يتعذر علينا تجاوز حدود مصطلح فكري معاصر واحد.. لذا فقد حرصنا على التحاور والحديث عن معظم المجالات الفكرية المعاصرة.. وفي هذا الأطار وأننا إن لم نتوقف بعمق أزاء بعض المسائل والمواضيع الفكرية، فأن سبب ذلك يعود الى عدم رغبتنا في أن يكون اللقاء محددا فقط لمفهوم فكري معين أو اتجاه فكري واحد.. وهذا ما يتبين للقارئ أنه سوف يلاحظ نوعاً من (القفز على مرياته) في تفاصيل أسئلة الجملة أو كما نوه اليه هو(نوع من الحيل الصحفية) ونعد قرأنا، بأنفا إذا مازرنا المغرب مستقبلا والتقينا عن كثب مع المفكر الكبير وبعض المثقفين المغاربة ايضاً، فسوف نتوقف بشكل أعمق عند المفاهيم الفكرية.
لو أردنا هنا، تعريف هذا المثقف الكريم بقراء(كولان) فبإمكاننا القول: إن هذا المثقف الكبير هو أحد الرواد المتميزين للفكر المعاصر على مستوى الدول العربية، وهمه الوحيد هو تعريف مواطني الدول العربية، أو من يتقنون اللغة العربية، تعريفهم بالفكر المعاصر.
ويعتقد هذا الفيلسوف أن المثقفين العرب قاموا لحد الآن فقط بترجمة الفكر المعاصر(بشكل صوري) الى اللغة العربية وهي مارفضت في الثقافة العربية فيما يخص الفكر المعاصر.. وفي هذا الجمال، والى جانب تألفيه ل(11) كتاباً عن الفكر المعاصر, فإنه لم يمهل مجال الترجمة الفكرية ايضاً وترجم(7) نتاجات من المدرستين الفكرتين الفرنسية والألمانية الى اللغة العربية فضلاً عن تأليفة(9) كتب منهجية توخى منها فائدة طلبة أقسام الفلسفة واللغة العربية، هذا علاوة على نشره العديد من الدراسات والبحوث الفلسفية في المجلات الفكرية مثل الأتحاد الأشتراكي ، الأقلام، آفاق جديدة، الفكر العربي المعاصر، المستقبل العربي) وغيرها وهو أحد مديري مجلة(المشروع).
وفيما يأتي نص مقابلة المثقف العربي الكبير محمد سبيلا مع مجلة كـولان:


كولان: بدايةً و قبل كل شئ ، نود أن نسأل : كيف يرى المفكر محمد سبيلا الواقع العربي الراهن و على وجه الخصوص بعد مرور عام على الربيع العربي؟
محمد سبيلا: الواقع العربي هو واقع معقّد إلى حدٍ كبير ، تعتملُ فيه فواعل الماضي و بوارق المستقبل ، حيث يعكس هذا الصراع الطويل المدى في عمق الوعي العربي و في عمق التأريخ العربي بين جاذبية الماضي القوية و جاذبية الحاضر و الواقع العالمي الحالي الذي هو بمثابة الشرط للوجود. ما نتعلمه في المجتمعات العربية اليوم ، يجب أن لا يُقرأ قراءةً ساذجة ، أي قراءةً سطحية تكتفي بقراءةٍ حرفية للمظاهر ، فالمقولة الفلسفية المناسبة لقراءة ما يعتمله الواقع العربي الحالي هي "مقولة المكر" مكر التأريخ ، و لا أقصد بـ "مقولة المكر" بمعناها "الهيغلي" المثالي الـغائي العقلاني ، بل بمعنى آخر أقرب ما يكون إلى التصور الجيوستراتيجي ، فـ "مكر التأريخ" يبين لنا أن ظاهر التأريخ شئ و عمقه شئ آخر ، أو خطاب الأحداث شئ و ما يعتمل في أعماقها شئ آخر ، سواءً على مستوى المطالب أم على مستوى النتائج أم على مستوى كل التحولات. وما يجرى اليوم يوحي لكثير من القراء و من المحللين و من الستراتيجيين ، تصوّر أن هذا الحراك العربي الجماهيري الكاسح الذي ربما أدى إلى بعض النتائج السياسية في إسقاط أنظمة أو أشخاص أو شئ من هذا القبيل ، و هو تحرك يوحي بأنه وحم البشائر الديمقراطية و الحداثة و التنوير و بشائر التقدم ، غير أن الأمر في الواقع أعقد من ذلك ، فهنالك لربما أشياء خفية ، و أعماق التأريخ و أعماق الشعوب تظهر ، بمعنى أننا ، ربما لم نجن كل الآمال والإنتظارات التي عقدناها على هذه التحولات ، فهي تحولات لا شك ، و هي حراك لا شك ، و هي زعزعة للأنظمة لا شك ، و لكن الجذور العميقة ، الثقافية الفكرية و الوجدانية العميقة تظل ، ربما ، بمثابة شروط و بنيات متحكمة بشكل ثابت في التأريخ العربي ، مع أن هناك بشائر الديمقراطية والحداثة و العقلنة و التنوير و نزع طابع إستحلال العالم وإلى غير ذلك من المقولات الفلسفية ، بيد أن خطوات التأريخ الملموس ، كما بيّنتها الإنتخابات الحالية في كل من تونس و المغرب و مصر ، و أيضاً ربما في التحولات في ليبيا ، تدل على أن القوى السياسية التي جنت آثار هذه التحولات و هذا الحراك العربي العنيد للقوى الإسلامية بصيغتيها التقليدية و ربما التجديدية. طبعاً لا أقول أن هذه خطوة إلى الوراء ، و لكن هي خطوة يتداخل فيها الخطو إلى الوراء و الخطو إلى الأمام ، أو هي خطوة صراع أو تعكس صراعاً داخل المجتمع العربي بين رغبة في التقدم و في التحديث و في الدمقرطة ، و لكن أيضاً رغبة في التمسك بالهوية و العودة إلى الماضي حتى و لو كان بشكلٍ جديد. لذلك أقول أن "القراءة الماكرة" ، و أقصد "القراءة الماكرة" و ليس القراءة المتيقظة أو القراءة غير الإيديولوجية أو القراءة غير النضالية إلى حدٍ ما لما يحدث ، لأن القراءة النضالية هي قراءة متحمسة تعني بدور الشعوب و بفعاليتها و على أن التأريخ سيحقق كل المطالب و كل الأماني. فأقول ، أن ما يحدث هو إعتمال ، هو مظهر من مظاهر الإعتمال و محاولة للخطو إلى الأمام مع صراعٍ ينبع عن وجود قوى و تثاقلات في التأريخ ، تثاقلات بيولوجية و فكرية و مؤسسية ، و تثاقلات أكاد أقول دنيوية راسخة ، و رهاني هو على تطوير و تفعيل الجوانب الإيجابية أو الجوانب التقدمية في هذا الإعتمال العميق.


كولان: في خضم التغيرات الواقعة في العالم العربي شهدنا تقدم و تَصدٌّر الأحزاب الإسلامية بشكل ملحوظ في الإنتخابات و على وجه الخصوص في الإنتخابات المصرية ، كيف تقرأ مستقبل مصر في ظل صدارة و تحت حكم الإخوان المسلمين و السلفيين؟
محمد سبيلا: قلت هذه خطوة ماكرة ، بمعنى أنه ، هو في الظاهر ينجح الإسلاميون ، و الإسلاميون عندما ينجحون فهم ينجحون بشروط سياسية و فكرية و دولية جديدة ، فهم مطالبون بالتكيّف مع الديمقراطية ، لأنهم نجحوا بفضل الديمقراطية و في إطار الشرط الديمقراطي ، و ملزمون بالديمقراطية إلزاماً دولياً و داخلياً و تعاقدياً، فالديمقراطية بالنسبة لهم ليست سلّماً يمكن القذف به بعد الصعود عليه لأنها ليست مجرد أداة ، بل هي طموح و أمل و ثقافة و ربما جزئياً غاية ، غاية أو ليس فقط مجرد وسيلة. لذلك ، أعتبر أن دخول أو صعود الإسلاميين هو إقحامهم في المعترك الديمقراطي أولاً ، هم جميعاً في كل هذه الدول ينادون بالديمقراطية و يعلنون على الأقل على مستوى الوعي الواضح بأنهم يريدون الديمقراطية و بأنهم في معظم الأحيان يدخلون في منافسات من أجل الدفاع عن الديمقراطية بالقول بأن إتجاههم هو أكثر إرتباطاً بالديمقراطية ، و كأننا أمام مزايدات حول الديمقراطية ، إذاً هذه خطوة تأريخية نحو تفعيل القناعات الدينية في الإحتكاك مع المؤسسات الديمقراطية و الثقافة الديمقراطية ، و أعتقد أن هذا سيترك شيئاً إيجابياً لأنه لا خيار لهذه الإتجاهات الإسلامية إلا في أن تثبت بأنها قادرة ، لا فقط على فهم الديمقراطية ، بل قادرة أيضاً على تفعيلها و التمسك بها لأن هناك رقابات إجتماعية و داخلية و دولية ، تأريخياً عاماً تفرض عليهم إستيعاب الديمقراطية ، و الديمقراطية أولاً في مجالها السياسي ، و إن كانت مطالب الجماهير ، الجماهير العربية في كل الدول العربية في هذا الحراك العربي ، هي بالدرجة الأولى حراك أو مطالب من أجل مكاسب ملموسة ، من أجل تحسين مستوى العيش ، و العمل ، و تحسين الدخل ، و الوضعية الإجتماعية و السكنية و غير ذلك ، مطلب العدالة الإجتماعية ، المطالب الإجتماعية المادية هي الأساس. فتأتي النخب ، سواء كانت النخب الحديثية أم النخب الإسلامية ، لتسري ربما أو لتقيّد هذه المطالب و تعطيها طابعاً سياسياً. و لذلك ، الإطار اليوم الذي تصبّ فيه هذه المطالب هو الشرط الديمقراطي و خاصة في شبه السياسيين ، بيد أن كلما نزلنا في العمق نجد أن المواطن العربي العادي ، حتى عندما يفقد الكرامة و ويفقد ما يسمى اليوم في العالم العربي كله بالحفرة أو الإحتقار ، فأن مطالبه الأساسية مرتبطة بالمجتمع المدني الإستهلاكي المعاصر ، و مطالب و شروط تتضمن العمل و توفير الحقوق مع أن الأساس هو أكتساب الحقوق الحياتية أولاً و من ناحية أخرى الحقوق السياسية. و أعتقد أن الإسلاميين أتوا في هذا الضرف التأريخي الحرج الذي هم من جهة نتاج الديمقراطية ، أي نتاج الإنتخابات ، أي نتاج الأحداث السياسية ، و من جهة أخرى هناك نوع من ، ربما التعارض بين الثقافة السياسية المؤسسة الديمقراطية ، بل ربما بين الثقافة السياسية الحديثة كلها و الثقافة الإسلامية أو الإسلام السياسي التي ربما ما تزال لديها بعض الصعوبات في التكيّف مع الثقافة الحديثة و الفكر الحديث و كأن هناك مَيلاً إلى إستخدام الجانب الأداتي و الثقلي في الحداثة السياسية و طرح الجانب الفكري أو رفض الجانب الفكري و الثقافي ، و هذه مفارقة سيعيشونها بعمق و سيجدون أن الديمقراطية تفرض ثقافتها ، ولا يمكن القبول ، بسلخ الديمقراطية عن ثقافتها ، لا يمكن الـتمييز فيها بين آلياتها و تقنياتها الإنتخابية و التنظيمية و بين ثقافتها القائمة على التصور العقلاني للتأريخ و على التصور العقلاني للإنسان و على تنظيم الإرادة و التنظيم الإجتماعي بصورةٍ عامّة.


كولان: يتناقشون اليوم في الغرب على (الحداثة و ما بعد الحداثة) ، البعض يقولون أنهم بلغوا ما بعد الحداثة ، و البعض الآخر من المدرسة الألمانية يقولون أن (الحداثة) مشروعٌ لم يُكتمل بعدُ. لو نتحدث في إطار الواقع العربي الراهن ، نحن اليوم في حاجة إلى (التنوير) ، لو نردّد السؤال الـ(كانت)ي، ما هو (التنوير) للشعوب العربية و الإسلامية؟
محمد سبيلا: أولاً: هناك نوع من الرفض ، رفض الفكر الغربي بـصورة أو بأخرى في الثقافة العربية ، هناك نوع من الإحتجاج و أحياناً نوعٌ من الرفض ، بدرجات متفاوتة سواء عبر الترجمة أم عبر الفهم ، من جملة الأشياء التي يسودها نوع من الإلتباس الفضيع في العالم العربي هو الخوف بين الحداثة و ما بعد الحداثة ، فأنا أتصور و كأن الأمر يتعلق بمراحل زمنية ، و كأن الحداثة ابتدأت سنة 1850 أو شئ من هذا القبيل و انتهت في ستينات القرن العشرين أو شئ من هذا القبيل. الحداثة في التصور الفلسفي و الفسيولوجي ، هي حركة فكرية عقلانية نشأت في الغرب إبتداءاً من القرن التاسع عشر ، أو حسب المؤرخين: في القرن الثامن عشر ، و بدأت تنتشر في العالم تتضمن تصوراً معيناً للعالم و تصوراً معيناً للإنسان و تصوراً معيناً للتأريخ ، هذا التصور الذي أتت به الحداثة ما يزال سارياً و ما يزال قوياً و ما يزال حاضراً لأنه يقطع بشكلٍ ، ربما جذري ، مع التصور التقليدي للزمان و للتأريخ و للإنسان و علاقة الإنسان بما حوله أرضاً و سماءاً. فهذا الـ(باراديغم) ، أو هذا المثال أو هذا النموذج الذي هي الحداثة على مختلف مستوياتها الثقافية و التقنية و التنظيمية ، أي السياسية و المؤسسية هي تجربة جديدة و أطر جديدة في تأريخ البشرية ما تزال في طور التفعيل. و ما يسمى بـ (ما بعد الحداثة) ليس إلا لحظة من لحظات الحداثة ، و هو درجة دنيا ، ثانية من درجات الحداثة ، أو سرعة ثانية في إطار الحداثة. (ما بعد الحداثة) ليس رفضاً للحداثة ، أبداً ، بل هو مراجعة لبعض أقانينها التي تمت أسطرتها ، و لبعض مظاهر الأَمثَلة ، أو المثالية ، أو ربما الصنميّة ، في بعض مظاهر الحداثة التجديد ثابتة و نهائية. لهذا ، ما بعد الحداثة هو تجديد للحداثة للتخلص من بعض مؤثراتها و من بعض مثالياتها و من ما علق بها من الأشياء التي ما أسماها ذلك الفيلسوف الفرنسي الذي رغب في التخلص من الحكايات السرية الكبرى أو من التصورات الكبرى المجتمعي للتأريخ و عدم تقديم الحداثة و كأنها دين و رؤية جديدة تجمع بين ما هو عقلاني و إلى غير ذلك من مراجعات ، فـ (ما بعد الحداثة في الغرب) هو تجديد للحداثة ، هو إعادة النظر في بعض مقوماتها أكثر مما هو رفضاً للحداثة. مع الأسف ، الفكر العربي و اللغة العربية تٌيسّر مثل هذه الأوهام لأن كلمة (ما بعد) في العربية توحي و كأننا خرجنا من الحداثة و دخلنا إلى مرحلة (ما بعد) ، و هذا وهم كبير و يضاف إليه طبعاً تحليلات سطحية و الفهوم السطحية المتفرعة ، و أقول أيضاً التقديمات الصحفية الملخصة و الموجزة و دور وسائل الإعلام في التعتيم الفكري و الثقافي ، في حين أنّ (ما بعد الحداثة) هو في العمق أعمق من الحداثة ، هو لحظة تخلت فيها الحداثة عن أقنانها ، عن أقانينها و عن أساطيرها و عن أصنامها و فعّلت منطقها الناتئ و منطقها السالك و منطقعة المفكك إلى حدّ كبير. مع الأسف نحن في العالم العربي ضحية لهذا. ما يحتاج إليه العالم العربي و المجتمعات العربية أشياء كثيرة ، العالم العربي أو المجتمعات العربية في حاجة إلى تنوير و في حاجة إلى ضخّ كميات كبيرة من العقلنة ، في حاجة إلى تفعيلٍ أكبر للعقل ، لأن الصراع القائم في المجتمعات العربية هو بين العقل التقليدي و العقل التحديثي ، بين التراث كقوة كفكر مؤمر كمعنى نهائي للعالم ، كمعنى متجملّ للعالم و بين الحداثة و الـتجديد ، فرؤية تجديدية نقدية للذات و للمجتمع و للتأريخ و للإنسان و للكون و لكل شئ. تقول لنا ما تزال هذه الثقافة التقليدية العربية في كل المجتمعات العربية ثقافة قوية راسخة متكلفة ، إما تحت سيطرة هذا الإتجاه أو ذاك ، هذه الـالمحنة الدينية أو تلك. و ما تزال ، كما بيّن أحد المفكرين المغاربة و هو الدكتور عبدالله العويض أن السنة إتخذت طابعاً رسيماً في الإسلام و أصبحت نسخةً أولى للإسلام و كأن هي الإسلام نفسه ، بمعنى أنّ الدين و الثقافة الدينية لم ترتجل شئ و لم تدخل عالم تأويلات و عالم تعدد المعاني. فنحن ما نزال نعيش على المعنى الواحد و الفكرة الواحدة و العالم الواحد و الإتجاه الواحد ، و طبعاً ذلك من جهة ، من زاوية بنية الفكر الديني و من زاوية الفسيولوجيا من زاوية سيطرة الفقهاء و القوى التقليدية على هذا الفكر و على هذا الدين ، بارتباطٍ طبعاً مع القوى السياسية المسيطرة ، لأن هنالك تناغماً بين تأويل ثقافي معين و بين إستخدام سياسي ، الإستخدام السياسي الذي تستفيد منه فئة و نخب و ربما طبقاتٍ حاكمة. حاجة العالم العربي هي حاجات ، حاجة إلى إعادة التوازن بين ثقل التقليد الراسخ و الساحق و بين الحاجة إلى العقل ، أي إلى النقد و إلى التجديد و إلى الفحص و إلى مراجعة المُسلّمات و إلى مراجعة الكثير من البديهيات. ما يزال مع الأسف الماضي و التقليدي و التأويلات التقليدية هي المهيمنة ، فكل ما يخلخل هذه البنيات التقليدية على المستوى الإجتماعي و على المستوى السياسي و على المستوى الفكري و الثقافي و إن كان هذا المستوى الأخير أعمق و أصعب ، هي كلها خلخلات يمكن أن تفيد في تحريك السواكن و تحريك القوافل لأننا أمام مجتمعات آفنة ، سواء أكان في الظاهر تخضع لحركيات ، في الظاهر إنقلابات و تحولات و صراعات و لكن العمق مجرى لنهرٍ عميق ما يزال هو.


كولان: تحدثتم حول النقد ، بحسب المدارس الفرانكفورتية تسمى نظرية النقد بـ (نظرية المجتمع) ، فمن المعروف أن المدارس الفرانكفورتية مرت بثلاثة أجيال. نود أن نسأل سيادتكم ، ما هو الفرق بين الأجيال الثلاثة: من (ماركوز) إلى (هابرماس)؟
محمد سبيلا: نعم ، مدرسة فرانكفورت هي مدرسة متميزة في تأريخ الفكر الألماني و في تأريخ الفكر السياسي ، لأنها مدرسة تجمع أو تستجمع التراث الغربي كله ، سواءاً في الماضي أو في الحاضر ، فهي تستجمع الفكر الماركسي و الفكر الفرويدي و كل مساهمات الفكر العالمي و بخاصةٍ الفكر الألماني و أيضاً التراث الـ(كانت)ي لأنها إلى حدٍ ما مدرسة فبالتالي هي (كانتيّة) إلى أنها توسع الكانتية و تدخلها في سياقات جديدة و تطعمها بمعطيات فكرية جديدة ، مدرسة فرانكفورت هي نقد شاملٌ للمجتمع الحديث ، نقدٌ عميق سواءاً لدى (هيركهايمر) في نقده للتراث أو سواءاً لدى (أدورنو) في نقده لما يسميه بـ (العقل الأداتي) للسيطرة الأداتية و العقلانية الأداتية الصارمة ، أو لدى (ماركيز) في نقده للإستيلاء و نقده للأيديولوجيا المهيمنة و نقده لأحادية البعد ، نحن نعرف أن (ماركيز) عندما ذهب إلى أمريكا وجد نفسه أمام نموذج للمجتمع التكنلوجي لمجتمع تسيطر فيه التكنلوجيا و حولت المجتمع و الأشخاص إلى نماذج آلية ، و كأن التقنية انتقلت من الآلات إلى الأذهان و السلوكات و إلى المجتمع. من خلال ثقافته الألمانية النقدية التي تجمع بين الماركسي و الفرويدي و إلى حدٍ ما النيتشوية والهايدغرية و إلى غير ذلك ، وجد نفسه أمام مجتمع آلي بدا له أن عيبه الأساسي هو أحادية البعد ، و أحادية البعد عند ماركيز هي القبول بالواقع و بما هو موجود إعتباره مثالاً. إلا أنه في هذا المجتمع التكنلوجي ، ليس هنالك مثال و لا يوثوبيا و لا شئ ، المثال و اليوثوبيا هو واقع الشئ ، لقد استطاعت التكنلوجيا أو المجتمع التكنلوجي أن يكيف الإنسان الأمريكي و الإنسان الغربي ليقبل الواقع و ليتحدث بالواقع و ليعتبر ما هو واقع هو المثال نفسه و هو الأمل نفسه ، و قلب العلاقة بين الواقع و المثالية ، هذا نقد راديكالي و هو الذي استطاع أن ينسجم حوله ثورة الشباب في الستينات أو في نهاية السبعينات في أوربا و أمريكا و ربما في العالم كله اليوم ما تزال نموذجاً للثورة على التصورات التكنلوجية. طبعاَ هابرماس وريث لهذا التراث و إن كان قد جدّد كثيراً في فهمه و في استيعابه و في استعماله باعتبار أنه استوعب الثقافة التي تدرك مختلف نظريات التواصل و اللغة و غير ذلك ، الذي استوعبها ، و أيضاً طابعها القانوني و البعد الحقوقي و وسع مفهوم النقد و دعى إلى التخلص من المفهوم الكلاسيكي للعقل ، للعقل الأوربي كعقل أداتي و غير تواصلي ، و هو يدافع عن التواصل و العقل التواصلي و يدعو إلى الخروج من مفهوم الذات أو مفهوم العقل متوارثة عن (كانت) بخصوص (ديكارت) ، العقل الذي هو عقلٌ أداتي و مغلق و إجتراري و ليس عقلاً تواصلياً ، بما أنه وسع مفهوم الحداثة و أعطاه بعداً يوثوبياً ليقول بأنّ الحداثة لم تُفعّل بعدُ ، فما تزال فيها الكثير من المعطيات و تحمل الكثير من البشائر و الوعود و الإنتظارات و خاصةً إذا ما طعّمنا العقل الأداتي بعقلٍ تواصلي و إذا ما وسعنا مفاهيمنا ، و نحن نعرف بأنّ هابرماس قد وجّه نقداً لاذعاً لإتجاهات ما بعد الحداثة في فرنسا و خاصةً في الإتجاهات الفلسفية (فوكو) و (ديليز) و غير ذلك ، الذين استدمجوا نوعاً من العدمية النيتشوية و من رفض (نيشتة) للحداثة و قالو بنهاية الحداثة و بما بعد الحداثة. يعتبر هابرماس هذه إشاعات من منطلقه الكلاسيكي أو العقلاني الكلاسيكي ، يعتبرها إتجاهات فوضوية و عدمية و إتجاهات تأريخية ، و هي تقع تحت تأثير تأويل المعلّم لـ(نيتشة) و (فرويد) و لبعض هذه الإتجاهات العدمية. فربما هابرماس كسليل و بعده الجيل الذي هو الآن معه يقول بأنّ العقلانية أو الحداثة المحملّة بعقلانية دمجٌ لخدمة سليطها بشكلٍ كافي و يجب تسييبها و تفتيحها و توسيعها لأنها مشروعٌ لا نهاية له ، و نفسه يقول بأنّ الحداثة مشروعٌ لم يكتمل ، بمعنى أنه مشروع واسع المدى و بعيد المدى ، و نحن في حاجة في العالم العربي إلى إستلهام الفكر الغربي و خاصة الفكر الألماني لأن الفكر الألماني يفكر بعمق و بتفكير فلسفي عميق في مسألة الحداثة ، لا من زوايا فسيولوجية و لا من زوايا إقتصادية و لا حتى من زوايا سياسية ، فقط بل من أسسها الفكرية و أكاد أقول أسسها الميتافيزيقية ، فضل الفكر الألماني ، طبعا هنا الذي خاض في المعاني الفلسفية العميقة للحداثة كتصورٍ للعالم و كتصورٍ قوامه الذاتية و العقلانية و تحويل الرؤية إلى العالم و غير ذلك من الأشياء التي ليس هنا مجال للتفصيل بها ، لقد تعمّق الفلاسفة الألمان في الجيب أو في العمق الفلسفي للحداثة و هو شئ فريد في تأريخ الفكر البشري لأنّ الفكر لا أصداء له في الفلسفة الفرنسية ، و ربما إستثماره في الفلسفة الفرنسية و أيضاً في الفلسفة الإنجليزية ، و لكن كل هذه الإجتهادات الفلسفية العميقة ذات طابع متميز نحن في العالم العربي بعيدون عنها و بعيدون بل عن دروسها و معانيها العميقة.


كولان: نتوجه في الحديث من النقد إلى دور المثقف ، من الطبيعي أن بحسب مدرسة هابرماس يجب أن يوجد المثقف في الفضاء العام و بحسب فهمي لـ(هابرماس) أتصور أنّه يطالب المثقف لخلق التوازن بين النظرية و الممارسة. كيف ينظر المفكر (محمد سبيلا) إلى المثقف من منظار (النظرية و الممارسة)؟ بمعنى كيف يوفق المثقف بين النظرية و الممارسة؟
محمد سبيلا: نعم ، هابرماس هو وريث تراث فكري متنوع ، فهو أيضاً ماركسي إلى حدٍ ما ، و لذلك فهو يؤمن بدور النخبة و بدور النخبة المثقفة ، سواءاً النخبة السياسية أم النخب الأخرى ، ولكن أساساً بدور النخبة المثقفة و المثقف أو الأنتلجنسيا ، بيد أن هابرماس لا يُساير التأويلات الماركسية العملية أو الحزبية خاصة كما نجده في نظرة الماركسية الإيطالية عند (أنطونيو غرامشي) الذي يتحدث عن المثقف العضوي باعتباره دائماً ساهراً متّبعاً ، فـ (هابرماس) يرش سياقاً لمفهوم المثقف و الأنتلجنسيا عن الماركسية و لكنه لا يساير كل التأويلات المغالية التي وجدناها في الفلسفة الفرنسية و في الفلسفة الماركسية و الإيطالية التي تُشيد إلى حدٍ ما إلى إعتبار المثقف و كأنه نبيّ ، و كأنه رائد من روّاد التأريخ ، لأن هناك إتجاهاتٍ أخرى فلسفية و فكرية تبيّن بأن المثقف هو كائن إجتماعي و إنسان أولاً مشروط بشروط معينة إجتماعية و تأريخية و نفسية أيضاً ، و أنّ له حاجات و هكذا ، فابقاء الطابع المثالي و الأسطوري على المثقف و أسطرة المثقف هي من جهة تأثير عن غياب فرعين تأريخيين. أما القادرين على ممارسة دور تأريخي فاعل ، فالكثير من الفئات الإجتماعية تلورثت و أبانت عن قصورها و أبانت عن قصر نظرها و بقي الأمر و الأمل معقوداً على المثقف و كأنه هو المخلّص ، و كأنه هو النبيّ المُخلَص أو الإله الجديد المخلّص الذي يُنتظر منه بـجوهرية و بنباهته الفكرية و بقدرته العقلية على أن يرسم طريق نحو المستقبل و طريق نحو المجتمع المنشود. أعتقد أن موقف (هابرماس) فيه حاجة هنا إلى ضرورة التخلص من أسطرة شأن المثقف و دور المثقف و فعالية المثقف بسبب حاجة المجتمع إلى ريادات و إلى قيادات وزعامات يجدها في كثيرٍ من الـ ، و مراعاة الشروط الإجتماعية للمثقفين باعتبارهم ، لا كما كان يقول أحد السوسيولوجيين الألمان أنّ المثقف بدون روابط ، (كارل مانهايم) هو أحد الفسيولوجيين و المفكرين الألمان الذين مجّدوا دور المثقفين باستلهامات شبه معقولة إلى حدٍ ما ، فتحدث عن المثقف الخالي من الروابط ، أي المثقف الذين هم متحررون من روابطهم الإجتماعية و كأنه طائر غير مرتبط بأية جاذبية مغناطيسية إجتماعية أو بأي جاذبية إجتماعية. المثقف في إعتقادي يدخل في باب أسطرة المثقف و المثقفين و دورهم. نعم ، فكرة المثقف تدلّ على حاجة المجتمعات ، و خاصة المجتمعات العربية و الإسلامية ، إلى ريادات و إلى قيادات بعد تلوث و فشل القيادات السياسية ، سواءاً التقليدية أو التحديثية ، و نحن نعرف أنه في العقود الأخيرة حتى القيادات السياسية و الفكرية الحداثية أو التحديثية تشوهت و تلوثت و دخلت في لعب لعبة (إستغماية) مع الأنظمة و دخلت في سجالات و في بعض شئ من هذا القبيل. فأنا دائماً أن قضية الإسلام دور للمثقف بأنها تعبير عن أمل أكثر مما هي تعبير عن واقع ، إنها تعبير عن ربما حاجة إجتماعية ، هناك حاجة إجتماعية لم تتم من طرف الفقهاء و من طرف الساسة و الساسة هم محترفون و براغماتييون و نفعييون ، و أكاد أقول إنتهازييون. فهذا الأمل معقود على المثقف و أعتقد أن (هابرماس) لأن (هابرماس) حاضر في هذا الموضوع ، حضر (هابرماس) يفيدنا في ضرورة الحدّ من المثالاتي ، أي إطار الطابع المثالي ، أو من أسطرة إطار الطابع الأسطوري على المثقف و دوره.


كولان: في كتابك (مدارات الحداثة) تقول أن الفلسفة ليست سماها فقط في سماء المفاهيم المجرّدة و ليست كذلك فقط تأملات في المفاهيم الكبرى كالعقل و الحرية و مصيرها و ما إلى ذلك ، بل هي أيضاً إنفتاح على الواقع لفهم و استيعاب المكوّنات و الإتجاهات. و سؤالنا على هذه المقولة: أين المثقف العربي في هذه المقولة؟
محمد سبيلا: المثقف سائح بين هذه المقولات لأن هنالك نماذج من المثقفين العرب ، هناك المثقف المؤدلج و هم كثيرون ، سواءاً المؤدلج في الإيديولوجيا الدينية أو مؤدلج بإيديولوجيا مثلاً ماركسية أو تحديثية أو شئ من هذا القبيل ، المثقفون مؤدلجون إلى حدٍ كبير. و المثقف النقدي المستقلّ الواعي باكراهات التأريخ ، و بعسر الإختيار الثقافي ، و هو مثقفٌ حائر ، مثقفٌ إلى حدٍ كبير و شقيّ ، أو هو تعبير عن شقاء الوعي. لماذا؟ لأن المجتمع أو صراعات المجتمع العربي التحزبات و التحيّزات تفرض عليه أن لا يكون مستقلاَ ، تفرض عليه أولاً: إختياراً إيديولوجياً ، ثانياً: إختياراً فئوياً و ربما إختياراً سياسياً حزبياً و من هذا القبيل. و إذا لم يفي بذلك و إذا لم ينحزّ و إذا لم يُجامل ، تراه محطّ إنكارٍ أو نقد. إكتساب قدرة على التحليل النقدي و الإنحياز الفكري ، لازم أن أتخلى عن قضايا التأريخ و قضايا مثل ذلك ، الإنحياد بمعنى عدم الإنغلاق بسرعة في دعم متسرّع بهذا الإتجاه البراغماتي أو ذاك بقدر ما يطلب منه أن يراعي مصلحة التأريخ أو مصلحة العقل. و كما كان يقول (هيجل) الفلسفة أو الوعي الفلسفي هو أكبر و أعمق تعبير عن الوعي التأريخي ، أو أنّ الفلسفة هي العصر من خلال الفكر. فالمثقف الحقيقي ، إذا كان هناك لقيام مثقف حقيقي غير مشروط بهذه الشروط الحادّة و الحاسمة ، فهو يفكر بعمق في الواقع. و أقدّم لكم كمثال عن هذه المسألة ظاهرة أعرفها جيّداً لأنها تخصّ الثقافة المغربية و هي أنّ المثقفون الكبار تخلّوا عن ، يعني وضعوا بين قوسين السياسي الحزبيّ الضيّق و انخرطوا في التفكير في القضايا الكبرى التي تجمع بين الواقع و بين تلك . مثلاً مسألة الحداثة ، هي في الظاهر مسألة فكرية مجرّدة و لكن في عمق التفكير في الحداثة و التفكير في الوقع ، أو التفكير في الآليات الواقع: كيف نحقق الحداثة في الواقع؟ ما علاقة الحداثة بالتقليد؟ ما علاقة العقل التقليدي بالعقل الحداثي؟ فالقضايا التي يتناولها بعض مثقفينا و فلاسفتنا هنا في المغرب هي تفكيرٌ في الواقع ، لأنه لا مناص للمثقف الحقيقي الفاعل من التفكير في الواقع ، أو مُزاوجة و الأخذ من العطاءات الفكرية العالمية بدون عُقد و التفكير في الواقع ، لأنّ لا قيمة لهذه الأفكار إن لم يتمّ تسخيرها لفهم الواقع و تسخيرها لتسلّط الضوء على الواقع الإجتماعي و الحياتي للمجتمعات العربية. فالمجتمع المثقف سيظل حياً كلما ارتبط بالشأن العام و بالحاضر وبالتأريخ و بالتفاؤلات الحاضرة و لكن ليس من حضور تأريخي للشموليين ليعتبرو أنّ التأريخ صراعاً نحو المستقبل من أجل تحقيق المزيد من الحداثة و من أجل تحقيق المزيد من التقدّم و من أجل توفير نصيبٍ أكبرَ من العقل و الثقافة للمجتمع.


كولان: نعود هنا الآن إلى العبارة الهيدغرية (مع و ضد) ، فكما تعلمون أنتم أيضاً أن (هابرماس) أستخدم هذه العبارة و كذلك (كارل أتوبل) أيضاً. لا أقصد هنا لا (كارل أتوبل) و لا أقصد (هابرماس) بل أودّ القول بأننا لو ترجمنا هذه العبارة الهيدغرية (مع و ضد) على المجتمعات العربية و الإسلامية ، برأيك: نحن مع من و ضدّ من؟
محمد سبيلا: هذا الـ (مع و ضد) تأخذ لدينا في ثقافتنا معنىً حزبياً تحيزيّاً (إما و إما ، إنما أو) المستوى الفكري الذي يطرح به كلٌ من (هابرماس) و (هايدغر) أساساً ، على الأقل لا يتحدث عن هذه المواقف الحدّية (مع أو ضد). فهو يعتبر دائماً ، يرى في كلّ شئٍ نقيضهُ ، فهو يرى بأن مثلاً في التراث و في الماضي يرى بأن التراث ليش شيئاً منقطع و يجب أن نقف ضده و نلغيه ، بل هو شئ مستمرّ ، مستمرٌّ فينا ، في حياتنا في مفاهيمنا ، في ثقافتنا ، و أنه يحضر باستمرار ، كما أنّ المستقبل لم يحضر بعدُ كلياً بل هو آتٍ. على كلّ حال ، أنا من خلال قرائتي لـ (هايدغر) على الأقل الفرضية ، تحدث عن المستقبل من حيث ما هو آتٍ ، لم يستقرّ بعدُ. فـ (هايدغر) أو الكثير من مفاهيمه و فلسفته كلها تقوم على المزاوجة بين المعطى الآني و المعطى الآتي أو المنتظر ، فهو ليس من النوع الذي يتخذُّ مثل هذه المواقف الحدّية. هذا ربما بالنسبة لنا نحن العرب هو تسييس و تأثير سلبي و تسييس للصراع الإجتماعي و خاصة تحت تأثير النظريات الحزبية أو التحزُّبات التي تتطلب من المرء أن يكون مع أو ضد. يجب ، من خلال مفهوم هايدغر و هابرماس ، أن نكون (مع و ضد) ، أو هناك أشياء نحن ضدّها و أشياء نحن معها ، وليس لذلك الموقف الحزبي الحدّي الضيّق الذي يقصم التأريخ إلى قسمين: (ما قبل و ما بعد). فمع الأسف هذه الترجمات العربية للفلسفة الألمانية تزيدها رداءة ، هي في الأصل عميقة و دقيقة و مُعبّرة عنها في اللغات بغاية الرفعة و السموّ ، و لكن مع الأسف الترجمات العربية ترجمات رديئة و ترجمات مُسيئة ، و هذا هو ما أشرتُ إليه سابقاً أن هنالك على العموم نوع من الرهبة من الثقافة الغربية و للفلسفة الغربية في ثقافتنا العربية سواءاً عبر تشويه الترجمات أو عدم دقتها أو عدم مراعاة تأويلات المعنى الكامنة فيها.


كولان: نعم ، بحسب ما ذُكر سابقاً ، توصّلنا إلى أن العالم العربي و الإسلامي في حاجة إلى عملية النقد و نقد العقل ، و هنا أودّ أن أسأل الفيلسوف محمد سبيلا: ما هي عملية نقد العقل في العالم العربي و الإسلامي؟
محمد سبيلا: أنت تعرف أنّ العالم العربي و الإسلامي ، منذ القرن التاسع عشر ، دخل في تفاعل مع الغرب و مع تحوّلاتها ، إبتداءاً من ما سميّ بالإصلاحات في الدولة العثمانية و مطالبة الغرب بالإصلاحات ، دخل العالم العربي في هذه التفاعلات ، تفاعلاتٍ أحياناً بطيئة ، أحياناً سريعة ، أحياناً سطحية و أحياناً عميقة ، مع التقنية و إستيراد التقنيات المختلفة ، مع محاولة تبنئتها ، مع المضيّة العلمية ، مع التحولات الثقافية و خاصةً مع الإقتباسات في مجال السياسة و الدستور و برلمانات و حقوق و غير ذلك. و لكن يبدو أن هناك ثلاث مستويات التي أدت إلى ترقي هذه التحولات ، ربما كان المستوى التقني سريعاً ، استيعاب تقنيات و استيرادها و استعمالها كان في البداية متعسراً ، إما بسبب عدم أو بسبب شُبهات دينية ألصقت بها و نحن نعرف موقف الفقهاء الرافض في البدايات لكل أشكال الحداثة التقنية و التي من بعد اليوم مثلاً لا أحد يجادل في الأنترنت و في الأقمار الصناعية و غير ذلك. الحداثة التقنية تتسرب بسرعة. الحداثة السياسية أو ما نسمّيه بالحداثة التنظيمية لتنظيم المجتمع سياسياً ، هذه أيضاً في طور الإنتقال إلى العالم العربي و الإسلامي بعد طول جهد وانتظار و بعد تعثر و بعد القول بأنّ الشورى تلغي الديمقراطية و أشياء من هذا القبيل ، و نحن نعرف اليوم بأنّ الأحزاب الإسلامية هي نفسها الآن في هذه اللحظة تزايد حول الديمقراطية و تنسب الإسلام للديمقراطية و تعبر عن غيرتها على الديمقراطية. المستوى الثالث: الذي هو أعمق و أصعب المستويات ، هو المستوى الفكري ، تفاعل المجتمعات العربية الإسلامية مع المجتمعات الحديثة في الغرب ، كما قلت ، استوعب تقنية جديدة و لكنه ما يزال يرفض المستوى الفلسفي و الفكري ، و ما يزال الفكر التقليدي مسيطراً و قوياً و رافضاً. فعندما نقول (العقل الحديث) ، فالعقل الحديث هو عقلٌ تفكيكي ، عقلٌ تحليلي ، تحليلي للتراث و مُسلّماته ، في قضاياه لبديهياته ، لما يعتبره العامّة و الفئة التقليدية مكاسب تأريخية نهائية. العقل الحديث عقل نقدي يفكك كل هذه الأشياء و يدعو إلى مراجعتها و يدعو إلى تجديد الأحكام بدل إصلاح الأحكام ، و يدعو إلى التدرّج و يدعو إلى النقد و نبذ الأوهام و ما إلى غير ذلك. العملية صعبة ، يبدو أن الثقافة العربية لم تستوعب و لا تريد أن تستوعب. الثقافة العربية الإسلامية ما تزال ترفض العقل الحداثي ، إنها تقبل التقنية الحداثية ، تقبل التنظيمات السياسية الحداثية و لكنها ترفض الثقافة العقلانية الحداثية لأنها ترفض ، مثلاً ، جزءاً من الديمقراطية أو الثقافة الديمقراطية التي هي جزء من الثقافة الحديثة. الثقافة الديمقراطية أساسها هو ثقافة الحداثة ، فكرية بصورة عامة: العقلانية ، التجريدية ، النسبية ، إعتبار الإنسان كائناً مركزياً و اعتبار التأريخ منتوج لتفاعلات متعددة بما فيها تفاعلات و ما إلى ذلك. التحولات الفكرية و الثقافية ما تزال عالقة ، و هناك مثلاً لربما لحيوية السفينة ، فكرية في مرحلة معينة في مصر ، في مرحلة معينة في تونس أو في مرحلة معينة في المغرب. و لكن في معظم هذه البلدان العربية ، هنالك رفضٌ للفلسفة ، هناك رفضٌ للعقل الحديث ، العقل بمعناه النقد العميق الذي يُعيد له عن (كانت) و عن صورته في و ما إلى غير ذلك. فهذه من مسألة مقارنة ثقافية ، ما تزال الثقافة العربية بجوانبه مقاومات عميقة تجاه تغلغل العقل النقدي الحديث في تحصين بنيتها و مكوناتها و مسلّماتها. و أنا اليوم أعربت أنّ هنالك رهان كبير فريد في العالم ، هو أن تأخذ من الحداثة جانبها التقني و التنظيمي السياسي و ترفض جانبها الفكري و الثقافي. هذا رهان ، فسيثبت التأريخ أو سيؤكد التأريخ فيما إذا كان صحيحاً أو خاطئاً.


كولان: نودّ أن نسألكم حول دور الإعلام في هذا العصر التأريخي خاصةً بوجود عوامل التواصل الإجتماعي ، مثلاً الفيسبوك و التويتر. برأيك ، كيف يؤثر الإعلام في هذت العصر على التفاعل و التواصل في المجتمعات العربية و الإسلامية؟ و كيف يجب أن تتعامل الشعوب العربية و الإسلامية مع هذه التطورات الهائلة في التكنلوجيا للإعلام؟
محمد سبيلا: ما أسميته بـ(التطورات الهائلة) في المجال الإعلامي ، أنا أسميه ثورة معلوماتية في فلسفة التواصل و المعاصرة ، و الإمتداد للثورات العلمية لثورة (كوبرنيكوس) و لثورة (نيوتن) و لثورة (داروين) و لكل الثورات العلمية التي عرفها تأريخ البشرية. إنّ الثورة التكنلوجية لإعلامنا المعاصرة هي كالثورات السابقة و امتداداً لها ، و لذلك هي (ثورة) بكل معنى الكلمة ، أي أنها تغيير. بيد أنّ سؤالي هو: هل أنّ هذا التغيير في الأدوات الذي بدأ يطال العالم العربي الإسلامي ، يمكن أن يحولّ قليلاً في هذه المجتمعات الآفلة و في هذا التأريخ الآفل؟ هذا رهان يتوقف على النخب التي تعمل في وسائل الإعلام. نعم ، إنّ هذه الوسائل هي الآن مملوكة من طرف الرأسمالات و من طرف هيئات ، أو لربما محافظة و دول بترولية محافظة ، و تسخر التقنية الإعلامية ، كما تسخر كل التقنيات ، لخدمة التقليد و لخدمة سيطرة سياسية تقليدية و العائلات التقليدية و لإبقاء مكانة على المكان. و لكن ، أيضاً من وجه آخر للمسألة ، هو رهان الذي يمكن أن تُفعل فيه فئات متعلمة جديدة تعرف الثقافة الحديثة و تفهم الشطر التأريخي الذي نعيشه و تفهم متطلبات الحداثة و التحديث. فهذا دور مفترض للكائنات الإفتراضية و هو أن لديها قدرة هائلة على التبليغ و على التواصل ، و كما رأينا في الثورات العربية على الحشد و التهييج و تعبئة و تهيئة الجماهير للنظال السياسي و مجابهة قوى القمع ، بالذات في العالم العربي. و لكن أعتقد أن الدور الذي لعبته في الحراك الجماهيري يمكن أن تلعبه في التحويل الثقافي ، في التحويل الفكري ، في تحويل حساسية الأطراف في المجتمعات نحو تقبّل المزيد من الحداثة و التحديث و التطور و التقدم ، و تنبيه الناس إلى أنّ هناك عملية تسخير للحداثة التقنية و التقنيات في ترسيخ التقليد و في ترسيخ سيطرة الإستبدادية السياسية في الهيئات التقليدية و المجتمعات التقليدية. بيد أنّ ما يمكن أن يُثبته النخب الجديدة ، النخب الإعلامية الجديدة؟ و للمثقفين جذور في الهيئات الإعلامية ، أن يلعبوا دوراً تأريخياً في التنوير و التجديد و العقلنة و فتح المجتمعات على منابر و على منارات الفكر الحديث و التأريخ الحديث.


كولان: نودّ في نهاية هذا اللقاء أن نسأل رأي سيادتكم حول الأزمة الراهنة التي تعصف بـ (سوريا) ، فنظام الأسد يزداد عنفاً يوماً بعد آخر و العالم العربي و المجتمع الدولي يقف مكتوفاً الأيدي أزاء سوريا و ليس في مستطاع المعارضة السورية شئ في هذا المأساة. كيف تقرأ الوضع الحالي في سوريا؟
محمد سبيلا: والله ، الوضع معقد و الإنسان لا يملك إلا ما تمده به وسائل الإعلام من معطيات. فأكيد أن هنالك حالة دراماتيكية تتمثل في القتلى بشكل يومي ، و تتمثل في أنه هنالك قوى دولية بعضها يريد أن يجذع النظام و بعضها الآخر يتحفظ حول ذلك. هناك صراع مصالح على المستوى الدولي ، و لكن المجتمع العربي السوري يعاني يومياً من القتل و التقتيل و هذه حالة فريدة تفوق في عنفها ، بتقديري ، على الحالة الليبية. لهذا من الضروري نهاية الإستبداد السياسي و الإستبداد العائلي مهما كانت التأويلات التي ترفعها و الشعارات القومية أو شئ من هذا القبيل التي يتغنى بها. و نحن نعرف و أنتم تعرفون في أنّ مثلاً ، الفئات الكوردية قد عانت الكثير.
Top