• Thursday, 28 March 2024
logo

هل يمكن القبول بواقع الفقر الراهن في العراق؟

هل يمكن القبول بواقع الفقر الراهن في العراق؟
تؤكد اللائحة الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة في العام 1948 وبقية المواثيق والعهود الدولية والإقليمية الخاصة بشرعة حقوق الإنسان بصواب أن حقوق الإنسان لا تقتصر على الجوانب السياسية, بما فيها الأثنية أو القومية, والثقافية والبيئية فحسب, بل تمتد لتشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية, بما في ذلك حقوق المرأة ومساواتها بالرجل, إذ إن التخلف والتشوه الاقتصادي والاجتماعي وتجلياتهما في حجم الإنتاج الإجمالي ومعدل الإنتاجية والبطالة والفقر وغياب العدالة الاجتماعية والحياة الإنسانية الكريمة كلها تعرض حياة وكرامة الإنسان إلى المهانة وتتسبب في خلق عاهات وعلل كثيرة في المجتمع, وهي الحالة التي تعيش تحت وطأتها الكثير من شعوب العالم النامي. وعلى الرغم من دخول العالم في مرحلة العولمة, كعملية موضوعية لا مرد لها, فأن هذا العالم الرأسمالي الاستغلالي لم يسع, بسبب طبيعته وبنيته الداخلية وقوانينه الموضوعية والسياسات التي تمارسها الدول الصناعية الكبرى, إلى مكافحة التخلف والتشوه والفقر والأمية والأمراض الكثيرة المنتشرة في عالم اليوم. كما عمقت سياسات العولمة الجارية واقع الفجوة بين التقدم العلمي والتقني ومنجزاته في الدول المتقدمة والدول النامية, وبين الفئات الغنية والفئات الفقيرة على صعيد العالم وفي كل بلد من البلدان, بما في ذلك الدول المتقدمة, دع عنك الدول الفقيرة. فالمعلومات المتوفرة تشير إلى وجود أكثر من مليار إنسان يعيشون تحت خط الفقر المعترف به دولياً (أقل من دولار يومياً للفرد الواحد), إضافة إلى وجود نسبة عالية من سكان المعمورة ممن هم فوق خط الفقر بقليل (2 دولار في اليوم للفرد الواحد). وعلى الرغم من وجود قرار للأمم المتحدة بتقليص الفقر إلى النصف مع حلول العام 2015, فأن المعلومات تشير إلى استحالة تحقيق هذا الهدف, إذ أن أمين عام الأمم المتحدة, السيد بان كي مون, قد أعلن في مؤتمر القمة الدولية الأخير إلى ارتفاع عدد فقراء العالم خلال الفترة الأخيرة بمقدار 65 مليون إنسان, وأن الفترة القادمة ستشهد زيادة أخرى تصل إلى 35 مليون إنسان بسبب الأزمة الاقتصادية الشاملة الأخيرة. وقمة الأمم المتحدة التي عقدت في نيويورك أخيراً لم تصدر القرارات الضرورية التي تساعد على مكافحة التخلف والفقر والحرمان, بل أصدرت توصيات عامة لا تغني من فقر ولا تشبع من جوع بالنسبة للشعوب الفقيرة, والتي غالباً ما نهبت ثرواتها الأولية قبل ذاك من جانب الدول الاستعمارية, ومنها القارة الأفريقية التي فيها أغلب فقراء العالم, كما أن ثلث فقراء العالم يعيشون في القارة الآسيوية التي لا تزال تمتلك ثروات أولية لم تنضب بعد, ولكن الدول المتقدمة جادة في طريقها إلى استنزاف تلك الثروات وإفقار شعوبها أيضاً. لقد كان على الأمم المتحدة أن تُلزم الدول الصناعية الكبرى والدول الغنية بتخصيص نسبة لا تقل عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي لدولها توضع في صندوقين, صندوق التنمية ويخصص له 1,5 % لأغراض التنمية الصناعية والزراعية في الدول الأكثر فقراً وحاجة, و0,5% في صندوق مكافحة المجاعات والكوارث التي تحصل في تلك الدول, لكي يتسنى لتلك الدول الفقيرة أن تنهض من كبوتها الراهنة صوب التقدم وتحقيق ما تحقق في مالاوي مثلاً, بدلاً من استمرار حلقة الفقر الشيطانية التي لا تعالجها إطعام الجائعين فقط.
والعراق, كأحد البلدان النامية, ولكنه غني بثرواته الأولية, لم يعان من انتهاك حقوق الإنسان السياسية والثقافية والبيئية فحسب, ولم يجر التجاوز فيه على الحقوق القومية والدينية والمذهبية والفكرية طوال العقود المنصرمة فحسب, بل واجه انتهاكاً فظاً لحقوق الإنسان في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي. إن واقع التخلف والتشوه الاقتصادي والاجتماعي والفقر والبطالة كلها مظاهر تقدم الدليل القاطع على ما نقول. إذ علينا أن نتذكر ما كان عليه العهد الملكي ومن ثم العهود اللاحقة, وخاصة الفترة التي بدأت مع حروب النظام الداخلية والخارجية وانتهت بسقوط الدكتاتورية. ولكن عراق اليوم يواجه إشكاليات غير قليلة في مجال حقوق الإنسان السياسية والثقافية والبيئية والدينية والمذهبية, وخاصة تلك المشكلات التي تعرضت لها منظمات حقوق الإنسان الدولية, ومنها منظمة العفو الدولية في آخر تقرير لها حول السجناء والمعتقلين في العراق في خريف العام 2010. كما أنه يواجه مشكلات جمة في مجال حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية.
إن ظواهر التخلف والتشوه الاقتصادي والاجتماعي وتجلياتها في الفقر والفاقة والعوز المادي تقود كلها إلى مشكلات اجتماعية لا حصر لها في كل المجتمعات, ومنها المجتمع العراقي. ولهذا فأن مكافحة التخلف الاقتصادي والفقر والبطالة تسهم بدرجة كبيرة في مكافحة تلك العلل والعاهات الاجتماعية والسياسية التي يعاني منها المجتمع العراقي حالياً. ومن هنا يأتي ينشأ قول أكثر المختصين بـ: أن التخلف والفقر والبطالة والحرمان تتناقض مع مبادئ حقوق الإنسان وتستوجب المعالجة السريعة. وعراق اليوم يشهد ظاهرة استمرار التخلف والتشوه الاقتصاديين وتشوه البنية الاجتماعية وتفاقم الفجوة في مستويات الدخل السنوي للفرد الواحد بين الفقراء والأغنياء, خاصة وأن نسبة عالية من الأغنياء لم تأت ثرواتهم إلا على حساب الثروة الوطنية والفقراء وعبر الفساد المالي في البلاد, والذي يعترف بوجوده الجميع, بمن فيهم أولئك الذين يمارسونه.
إذا اعتمدنا المعلومات التي نشرتها وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي في بغداد, سنجد أن الفقر في العراق قد وصل إلى 23% من سكان العراق في العام 2007, وأن الدولة تسعى إلى تخفيضه إلى 16% خلال السنوات الخمس القادمة. ولكن هناك أرقاماً أخرى تشير إلى وجود نسبة قدرها 30% من السكان تعيش تحت خط الفقر, إضافة إلى نسبة أخرى تصل إلى 30% أيضاً تعيش فوق خط الفقر بقليل. وإذا كانت هذه النسبة تمثل متوسط الفقر في العراق, فأن الفقر في المحافظات يتخذ أبعاداً أخرى وفق تلك الدراسة, كما أن الفقر بين الريف والحضر يشكل مأزقاً
فعلياً كبيراً للاقتصاد والمجتمع في العراق. فعلى وفق تلك الدراسة التي تم الاتفاق عل إجرائها بين الجهاز المركزي للإحصاء وبين حكومة إقليم كردستان ونشرت في العام 2009 يتبين للقراء الواقع التالي:
المحافظة نسبة الفقر إلى السكان % المحافظة نسبة الفقر إلى السكان %
أربيل 3 كربلاء 37
السليمانية 3 النجف 25
دهوك 9 واسط 36
كركوك 11 القادسية 35
نينوى 23 المثنى 49
ديالى 34 ذي قار 34
الأنبار 21 ميسان 27
صلاح الدين 40 البصرة 34
بغداد 13 العراق 23
بابل 41
قارن: وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي, تقرير خط الفقر وملامح الفقر في العراق, بغداد 2009.
موقع الحضارية على الإنترنيت, أيلول/سبتمبر 2010.

ومنه يستدل على الفجوة الكبيرة في ما بين المحافظات من جهة, ونسبة الفارق الكبيرة بين محافظة المثنى (السماوة) حيث بلغت نسبة الفقر فيها 49% من إجمالي سكانها, ومحافظات أربيل والسليمانية حيث بلغت نسبة الفقر فيهما 3%, على سبيل المثال لا الحصر.
أما على مستوى الفقر في الريف والحضر فأن الأرقام التالية تؤكد تلك الفجوة الكبيرة بينهما:
فقد بلغت نسبة الفقر في الريف 39% ونسبته في الحضر 16,1%. (قارن: نفس المصدر السابق).
ومن المثير حقاً أن ندرك بأن نسبة الفقر بين الفترة الواقعة بين 2007 و 2010 لم تتراجع في محافظات الوسط والجنوب وعلى مستوى العراق عموماً بل ازدادت كما أشار إلى ذلك الدكتور مهدي العلاق, وكيل وزير التخطيط ورئيس الجهاز المركزي للإحصاء وتكنولوجيا المعلومات. إذ بلغت نسبة الفقر بين الأسر العراقية (28%) و(30%) بين الأفراد وهم يعيشون في حالة حرمان شديد, حسب تعبير العلاق, أي تحت خط الفقر المعروف دولياً. كما أكد العلاق أن 95% من العراقيين يفضلون استمرار البطاقة التموينية, أي إنها النسبة السكانية العالية جداً التي ترى ضرورة الحصول على مساعدات حكومية, أما 5% الباقية من العراقيين فيبدو أنها من كبار مسؤولي العراق والأغنياء والمتخمين بالمال جداً. (قارن: موقع وزارة التخطيط على الإنترنيت, الجهاز المركزي للإحصاء وتكنولوجيا المعلومات 27/أيلول 2010).
أما البطالة في العراق فتشير أرقام وزارة التخطيط إلى إنها بلغت 30,2% من مجموع القوى القادرة على العمل, دع عنك وجود بطالة مقنعة تزيد على هذه النسبة وتستنزف الكثير من موارد خزينة الدولة وتعرقل إنجاز مصالح المواطنين. ومما هو جدير بالذكر أن نسبة البطالة في ذي قار (الناصرية) وصلت إلى 46,2% كمتوسط ونسبتها بين الذكور 48,8%, تأتي بعدها محافظة الأنبار 33,3%. ولا شك في أن نسبة البطالة بين النساء عالية جداً, إذ غالباً ما تحسب النساء ضمن فقرة ربات بيوت, وبالتالي لا يدخلن في أرقام البطالة الفعلية في العراق.
على ماذا يعبر هذا الواقع في العراق الجديد وفي بلد غني بثرواته الأولية وخاصة النفط والغاز؟
يمكن الإجابة عن هذا السؤال بذكر الأسباب التالية:
1. لا شك أن سنوات حكم الدكتاتورية وحروبها وسياساتها الاقتصادية والمالية والنقدية ذات النهج التدميري والعدواني ضد الشعب العراقي ومصالحه ونهبها لخيرات العراق وموارده المالية تشكل أحد أهم الأسباب المهمة والأساسية للواقع الذي لا يزال يعيش فيه العراق حالياً.
2. الاختلال المستمر في بنية الاقتصاد العراقي وغياب فعلي للتنمية الإنتاجية في قطاعي الزراعة والصناعة وانتهاج سياسة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في الاعتماد على الاستيراد ورفض تطوير وحماية المنتجات الوطنية...الخ. فهيكل الاقتصاد مشوه ومتخلف وعاجز عن فتح فرص عمل جديدة في العملية الإنتاجية المعطلة. وينعكس ذلك على البنية الاجتماعية المشوهة.
3. خراب النظام التعليمي السابق وضعف النظام التعليمي الراهن وعجزه عن التجاوب الضروري مع ضرورات التنمية الاقتصادية الإنتاجية وحاجة السوق الفعلية للقوى المؤهلة مهنياً للعمل الإنتاجي, إضافة إلى مستوى التأهيل الضعيف للخريجين الجدد. إن غالبة الخريجين يسعون للحصول على وظيفة لدى الدولة والتناغم مع سياسة الدولة ضد التنمية الإنتاجية وما ينشأ عن ذلك من قلة فيالقوى المهنية والعلمية المؤهلة للقطاعات الإنتاجية.
4. غياب إستراتيجية التنمية الوطنية في مجال التنمية الاقتصادية والبشرية وقضايا الاستثمار والتشغيل ومكافحة البطالة بصورة علمية. ويتجلى ذلك في عدم توفير مستلزمات الاستثمار في الإنتاج الصناعي والزراعي لقطاعات الدولة والخاص المحلي والأجنبي والمختلط والتعاوني.
5. غياب جدي للعدالة الاجتماعية في البلاد بسبب السياسات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة التي مارستها الدولة سابقاً وحالياً والتي لا تتجاوب بأي حال مع مصالح المجتمع. ويكفي أن نلقي نظرة على السياسة الاقتصادية لحكومة بغداد لندرك المخاطر التي يمكن أن تنتهي إليها الحالة المعيشية للسكان في الفترة القادمة وما يترتب عليها من أوضاع سياسية واجتماعية معقدة. ففي الوقت الذ توجد في العراق نسبة عالية من الفقراء, توجد بجوارها نسبة مهمة من أصحاب المليارات والملايين من الدولارات الأمريكية, وهم في الغالب الأعم ممن كونوا ثروتهم بطرق غير نزيهة ومخلة بالشرف وتساهم في تعميق المشكلات الاجتماعية.
6. إن نظام الفساد المالي, إلى جانب الفساد الإداري, سائد في البلاد, وهو نظام لم يعد في المقدور مكافحته وفق الآليات القديمة لأنه لم يعد ظاهرة بل أصبح الفساد نظاماً, وهو ما تؤكده منظمة الشفافية ومعايير الفساد في العالم, إذ "صنفت العراق لأعوام خمسة على التوالي ضمن الدول الثلاث الأكثر فساداً من بين حوالي 180 دولة, وقال ديفيد نوسبوم, المدير التنفيذي لمنظمة الشفافية الدولية, إن التقارير تشير إلى أن الفساد في العراق متفاقم بصورة غير معقولة". (راجع: موقع مفكرة الإسلام, شريف عبد العزيز. لماذا العراق أخطر بلد في العالم؟. حزيران 2010).
7. وعلينا أن ندرك بأن هناك علاقة عضوية بين ثلاث مشكلات يواجهها المجتمع العراقي: الفقر والفساد والإرهاب, إنها الثلاثي الخطر الذي يخلق حلقة مفرغة يصعب كسرها وتخليص البلاد منها وتسهم في تهديم العراق ما لم تكافح بجدية ووفق برنامج سليم ومقر على الصعيد الوطني وعلى مدى طويل ومن خلال حكومة وطنية مدنية وديمقراطية وغير طائفية ومدركة بعمق مخاطر هذا الثلاثي الرهيب.
فهل سيكون بمقدور الشعب العراقي توفير هذه المستلزمات للخلاص من التخلف والتشوه والبطالة والفقر في البلاد؟ لا أحد يستطيع الإجابة عن هذا السؤال غير الشعب العراقي كله, غير إرادته وتطلعه للحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية, غير تطلعه للاستقلال والسيادة الوطنية واستثمار ثرواته الوطنية لصالح تقدمه الاقتصادي والاجتماعي.
Top