• Thursday, 28 March 2024
logo

العلاقة الجدلية بين الأمن والاستقرار والحريات العامة في إقليم كردستان العراق

العلاقة الجدلية بين الأمن والاستقرار والحريات العامة في إقليم كردستان العراق
تؤكد البحوث النظرية والدراسات التطبيقية والتجارب الشخصية إلى وجود علاقة تفاعل وتشابك وتبادل تأثير جدلي بين ثلاثة مؤشرات جوهرية في حياة الفرد والمجتمع في أي بلد من بلدان العالم, إنها العلاقة بين الحريات الديمقراطية والحياة الدستورية من جهة, وسيادة الأمن والاستقرار والسلام الاجتماعي من جهة ثانية, وتوفر فرص العمل والرفاهية والضمانات الاجتماعية من جهة ثالثة. واي خلل في أي مؤشر من هذه المؤشرات سيجد تعبيره وتأثيره على المؤشرين الآخرين وعلى مجمل العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية في البلاد.
ومن هنا لاحظنا بوضوح كبير أن شعوب العالم كلها تسعى للعيش في ظروف تتسم بالأمن والاستقرار والسلام من جهة, والتمتع بالحياة المدنية والحريات الديمقراطية من جهة ثانية, والتمتع بفرص العمل والمشاركة في العملية الاقتصادية وتأمين رفاهية العيش من جهة ثالثة. وتشير المعطيات المتوفرة إلى أن حكومات الدول الأوروبية المتقدمة مثلاً قد قطعت شوطاً مهماً على هذا الطريق, وهي ما تزال تسعى إلى تطويرها, رغم إنها لم تحقق التشغيل التام كما يمارس الاستغلال فيها بمستويات مختلفة, بل تعاني من بطالة ومن مستويات فقر نسبية متباينة في حجمها وتأثيرها السلبي على المجتمع. ولمواجهة هذه الحالة عمدت, وتحت تأثير نضال الشغيلة ونقاباتهم والصراع بين المعسكرين في فترة الحرب الباردة, الى وضع قوانين للضمان الاجتماعي والصحي لتأمين الحد الأدنى للعيش بكرامة والتي تساهم بدورها في الحفاظ على الأمن الاستقرار وتقلص قدر الإمكان من التناقضات الاجتماعية التي يمكن ان تتحول إلى صراعات ونزاعات سياسية.
وبالنظر إلى صعوبة تحقيق مثل هذه المهمات الثلاث ولكنها ليست مستحيلة طبعاً, أقرت الدساتير المحلية واللوائح الدولية الخاصة بحقوق الإنسان الحق في التظاهر والاعتصام والإضراب بصورة سلمية وديمقراطية والابتعاد عن العنف والاساليب غير الحضارية. كما حرمت على الدولة وأجهزتها استخدام العنف والأساليب غير الحضارية في مواجهة المتظاهرين السلميين.
وفي الدول النامية حيث تسود في أغلب تلك الدول نظم سياسية غير ديمقراطية واستبدادية, وحيث البطالة الواسعة وارتفاع نسبة الفقراء في المجتمع وغياب فعلي للحريات العامة, غاب عن الكثير من هذه الدول الأمن والاستقرار والسلام الاجتماعي, وبالتالي نشأت تناقضات وصراعات سياسية تؤذي المجتمع, وهي ما تزال قائمة وتلعب دوراً كبيراً في الجيشان والانتفاضات الراهنة والعادلة في العديد من الدول العربية.
وفي الدول النامية التي استطاعت التخلص من نظمها الاستبدادية يفترض فيها أن تنتهج سياسات تأخذ بالاعتبار هذا الثلاثي الذي اشرت إليه في بداية المقال, وأعني به: تأمين الأمن والاستقرار والسلام, وتوفير الحريات الديمقراطية والحياة الدستورية والمجتمع المدني الديمقراطي, إضافة إلى توفير فرص العمل للقادرين عليه وإصدار القوانين لحماية العاطلين عن العمل والفقراء من السقوط في أحضان الفاقة والبؤس وما ينجم عنهما من مشكلات نفسية واجتماعية وعصبية للفرد وبالتالي للمجتمع, إذ يمكن أن يقود غياب العدالة الاجتماعية والفقر الشديد الفرد إلى فقدان زمام الأمور والتمرد على الدولة والمجتمع بهدف إسماع صوته بطريقة ما إلى المسؤولين.
وفي كردستان, واعتباراً من 1998, وبعد البدء بحل الخلافات بين الحزبين الرئيسسن في كردستان العراق ورفض استخدام العنف والقتال في حل المشكلات الداخلية, ومن ثم بعد تشيكل الحكومة الموحدة لكل الإقليم في العام 2005, ساد الأمن والاستقرار في ربوع الإقليم ولم تستطع قوى الإرهاب أن تنغص حياة المواطنات والمواطنين بعملياتها الإرهابية الدموية, كما كان وما يزال يحصل في أنحاء العراق الأخرى, في ما عدا مرات قليلة أجرمت بحق شعب كردستان حيث استشهدت جمهرة كبيرة من المناضلين ومن الناس الأبرياء في تفجيرات متفرقة ومحدودة خلال الأعوام الثمانية المنصرمة. ولا شك إن توفير الأمن والاستقرار في بلد ما يعتبر مأثرة كبيرة وحلم الجميع.
ويمكن تطوير وتعزيز حالة الأمن والاستقرار والسلام الاجتماعي حين تسعى حكومة الإقليم إلى تأمين المؤشرين الآخرين, أي فرص العمل والعيشس الكريم والعدالة الاجتماعية ومواصلة تأمين الحريات العاملة وتطوير الحياة الديمقراطية والحياة الدستورية.
من يلقي نظرة فاحصة على الحركة العمرانية في الإقليم سيجد أمامه حركة واسعة في بناء دور السكن والشوارع والجسور وجزء من البنية التحتية الضرورية للتنمية. والزائر لكردستان يجد تغييراً إيجابياً حاصلاً فعلاً في وجه مدينة أربيل ودهوك والسليمانية, كما اتسعت كثيراً وتوفرت الكثير من فرص العمل, ولكن احتل الكثير منها من قبل العمالة الأجنبية, في حين أخذت أجهزة الدولة الكثير من الموظفين الجدد بحيث أصبحت هناك بطالة مقنعة بين سكان الإقليم تصل إلى أكثر من 50% من العاملين في تلك الأجهزة. والخلل في هذه العملية التي تستوجب الحل المبرمج على مدى غير قصير هو التحول من إقليم مستورد لكل شيء تقريباً إلى إقليم ينتج الكثير من السلع بحيث يقلص الاستيراد ويساهم في تحقيق التراكم الرأسمالي ويوفر المزيد من فرص العمل لسكان الإقليم أنفسهم في القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية بدلاً من استيراد القوى العاملة من الخارج, إلا في حالات الضرورة وحين لا تتوفر الاختصاصات المطلوبة. ومثل هذه العملية تستوجب التحول إلى التعليم المهني والفني والإداري والعلمي أكثر بكثير من التعليم في مجال الفروع الإنسانية, إذ إن غالبية الخريجين يتحرون عن عمل في أجهزة الدولة, وهو خطأ شائع.
إن التنمية الصناعية وتحديث الزراعة وإقامة سلسلة من الصناعات الزراعية والكيماوية والدقيقة التي تعتمد التقنيات الحديثة غير الملوثة للبيئة, سواء أكان في إطار القطاعين الخاص أم العام أم في القطاع المختلط والقطاع الأجنبي, الذي يمكن أن يعتمد على قطاع مختلط أيضاً, تشكل القاعدة المادية للتنمية والتقدم في الإقليم. إن هذا التوجه للتنمية الاقتصادية الصناعية والزراعية سيخلق في إقليم كردستان طبقة برجوازية صناعية وطبقة عاملة تشكلان معاً القوى الحاضنة للمجتمع المدني والحياة الدستورية والانفتاح الواسع على العالم. وهي التي بدورها تساهم في تطوير وعي الإنسان وحرصه على الوقت والعمل والإنتاج والمال العام والثروة الاجتماعية. كما أن هذا يسهم بدوره في تحسين مستوى معيشة الأفراد والعائلات والمجتمع ويخلق أرضية صالحة للسلم الاجتماعي, خاصة إذا ما اعتمد الإقليم على نظام مناسب للضمان الاجتماعي في فترة العطالة عن العمل أو العجز أو الشيخوخة, وكذلك الضمان الصحي لكل المواطنات والمواطنين بما يساهم في تقليص الفجوة الراهنة والمتسعة في مستويات الدخل الفردي ومستوى المعيشة والحياة في الإقليم. إن الحصول على فرصة عمل تعتبر جزءاً من حقوق الإنسان على الإقليم, وبالتالي من حق المواطنات والمواطنين المطالبة بالعمل لكي يعيشوا بكرامة ولا يعانوا من مشكلات نفسية واجتماعية أو يمكن ان تكسبهم القوى المتطرفة التي لا تريد الخير للإقليم والمجتمع. ويتعلق بهذا المؤشر الاقتصادي والمعيشي واقع وجود فساد مالي وإداري في الإقليم الذي أصبح ظاهرة مقلقة للمجتمع ويطالب به الناس, إذ أن الفساد المالي له جوانب سلبية كثيرة, فإلى جانب التجاوز على المال العام وسرقة المواطنين في معيشتهم ورزقهم اليومي بطرق مختلفة, فأن لقاء رشوة معينة يفرط البعض مثلاً بشروط العقود التي توقع من قبل الإقليم من حيث أسعار العقود أو نوعية السلع والخدمات أو الصيانة والإدامة أو فحص المشاريع المنجزة ونوعيتها والتغاضي عن النواقص فيها. وهي تعيق توجيه المزيد من الأموال للتنمية الوطنية. ولهذا فأن المطالبة بمكافحة الفساد والكشف عن المساهمين فيه مطلب شعبي يفترض الاستجابة له من جانب رئاسة الإقليم والحكومة.
أما المؤشر الثالث فيرتبط بسبل تطبيق الدستور والقوانين التي تصدر عنه والحريات العامة للمواطنين. فسيادة القانون والتعامل المتساوي في ضوء القانون مع كافة المواطنات والمواطنين والفصل بين السلطات الثلاث واحترام استقلال القضاء وفصل الدين عن السياسة واحترام حقوق الشعب في النشر والكلام والتعبير والتنظيم والإضراب والتظاهر والاعتصام وغيرها يكفلها الدستور. فلهذا فأن من حق المواطنات والمواطنين كافة المشاركة في نقد سياسات الإقليم, سواء أكان ذلك عبر النشر في الصحف والمجلات أم إصدار الكتب أم البيانات أم عبر محطات الإذاعة وقنوات التلفزة أم التظاهر والإضراب والاعتصام والعمل من أجل تحقيق المطالب بصورة سلمية وديمقراطية وبعيدة عن العنف بأي شكل كان. كما على أجهزة الإقليم الابتعاد عن ممارسة العنف إزاء الناس أو ملاحقتهم بسبب مطالبتهم بحقوقهم المشروعة. إن ممارسة الحريات الديمقراطية وابتعاد أجهزة الأمن عن التدخل في الشؤون الخاصة للأفراد, وفي الوقت نفسه من واجبها حمايتهم من أعداء الشعب في الخارج أو القوى الإرهابية المتطرفة التي يمكن أن تجد دعماً لها من الخارج. إن هذه الوجهة من جانب المجتمع وأجهزة الإقليم ومؤسساته الدستورية يحقق التعاون وينمي ويطور العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم, لأن الحاكم هو مأجور لدى المجتمع, والشعب هو صاحب السلطات وصاحب الثروة الاجتماعية.
إن تغليب الأمن على الحريات الديمقراطية والحياة الدستورية والحرية الفردية يبدو وكأنه يحفظ الأمن, ولكنه في واقع الحال يخلق أجواء سلبية تقود تدريجاً إلى فورة داخلية تتراكم لتنفجر دفعة واحدة تعرض عند ذلك الكثير من المكاسب إلى المخاطر. كما أن وجود بطالة وبطالة مقنعة ونقص كبير في توفير فرص العمل وغياب التصنيع وتحديث الزراعة وتنميتهما وتفاقم الاستيراد بمبالغ طائلة تضعف القدرة التراكمية في المجتمع والإقليم وانتشار الفساد المالي والإداري وممارسة سياسات التمييز بين المواطنات والمواطنين في مختلف المجالات وعلى أساس الحزبية الضيقة والعشائرية والمحلية الضيقة وعدم استقلالية القرار الحكومي وتأخير معاملات المواطنين والمواطنات تقود بدورها إلى المزيد من التذمر وإلى الغليان الاجتماعي فيعرضان الحريات العامة والأمن والاستقرار إلى المخاطر الفعلية.
إن الرؤية الشاملة والموحدة لهذه المؤشرات هي التي تؤسس لعمل حكومي وشعبي سليم وتوفر الأرضية الصالحة للثقة المتبادلة.
إن السنوات المنصرمة في الإقليم شهدت الكثير من الأمور الإيجابية, ولكنها عرفت السلبيات ايضاً في المؤشرات الثلاثة مما أدى إلى تصاعد التذمر وإلى إضرابات ومظاهرات وإلى ممارسة العنف من جانب أجهززة الأمن والشرطة, كما نشأ عنف مضاد يفترض أن لا يحصل قطعاً وسقط شهيد وجرحى, إذ أن استشهاد أي فرد يزيد الأمور تعقيداً, في حين أن استخدام العقل والسياسات العقلانية والاستماع لصوت المتظاهرين والتعامل بجدية مع مطالبهم هو الذي يخلق الوحدة في المجتمع الكردستاني ويقرب الآراء ويسمح بمواجهة الأعداء في الخارج والمتربصين للفيدرالية الكرستانية. إن البروقراطية الحكومية تتعالى على الناس ةعلى المتظاهرين, ولكن لا بد لهم أن يعودوا إلى أرض الواقع, فالشعب هو مصدر السلطات وهو صاحب الحق المطلق.
إن التظاهرات الشبابية والشعبية السلمية في إقليم كردستان تهدف إلى تحقيق ثلاث مسائل جوهرية وهي حق مشروع للناس:
1. الإعلان عن وجود حالة غير سليمة في الإقليم تستوجب المعالجة السريعة, سواء أكان في المجال الاقتصادي أم الاجتماعي أم الثقافي أم السياسي أم الأمني, وأن المجتمع غير مستعد للسكوت بعد الآن.
2. الإعلان عن وجود قوى وجماعات مستفيدة من الأوضاع غير الصحية التي يعاني منها الناس في الإقليم وأن من الواجب تغييرها, وهي تعشش في صوف أجهزة الدولة والأحزاب الحاكمة.
3. وأن الحرية والديمقراطية لا يمكن حصرهما بحق الناخب في إعطاء صوته كلما حصلت انتخابات, بل هي سلة كاملة من المؤشرات التي بدونها لا يمكن أن ندعي وجود حرية وديمقراطية.
إن الفترة الأخيرة شهدت توتراً في الحياة السياسية والاجتماعية في إقليم كردستان, والحل يتطلب الاستماع إلى مطالب شعب كردستان والاستجابة لها, إذ لا يمكن ان يكون الشعب عدو نفسه بمطالبه.
إن تحقيق تلك المطالب, سواء أكانت بإجراء انتخابات حرة وديمقراطية في المحافظات أو انتخابات عامة على مستوى الإقليم أو تغيير الحكومة أو مكافحة الفساد ..الخ يمكن أن يتم عبر الحوار والتفاهم والتفاوض بصورة سلمية وديمقراطية بين الحكومة وممثلي المظاهرات ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب ومنها أحزاب المعارضة, وهو الطريق الوحيد لتحقيق الوحدة الوطنية وحل مشكلات الإقليم بصورة واعية وسليمة.
Top