• Thursday, 18 April 2024
logo

هل من سبيل لحل أزمة الحكومة ببغداد؟

هل من سبيل لحل أزمة الحكومة ببغداد؟
تشير معطيات الوضع السياسي الراهن في العراق, وبشكل خاص في العاصمة بغداد, إلى تراكم متواصل في المشكلات السياسية والاقتصادية وتجلياتها في الجانب الاجتماعي من حياة الشعب العراقي عموماً والفئات الكادحة والفقيرة خصوصاً. وتتجسد بدورها في استعصاء فعلي يعقد قدرة حكومة المالكي على معالجة المشكلات القائمة, وبالتالي يزيد من حالة الارتباك السائدة في المحافل والأحزاب السياسية وفي الشارع العراقي. وهذا الاستعصاء في حل المشكلات السياسية قد ساهم في عودة قوى الإرهاب المحلية والشرق أوسطية بكل أطرافها والتي تتدخل يومياً في الشأن العراقي بكل إصرار وفظاظة, لإنزال المزيد الخسائر بالمجتمع العراقي عبر العمليات الإرهابية التي تمارسها, سواء أكانت بتفجيرات كبيرة في مناطق حساسة وخطرة من بغداد, أم بقتل مجموعة من كبار العسكريين والعلماء والمسؤولين في مختلف دوائر الدولة بكواتم الصوت, أم بعمليات تخريبية أخرى تؤكد وجود اختراقات غير قليلة في المواقع المهمة والقريبة من صنع القرارات السياسية والعسكرية من جهة, واستمرار الفساد المالي وشراء الذمم الذي يسهم في تجنيد المزيد من الناس لهذه العمليات الخسيسة من جهة ثانية نتيجة, وتؤكد أيضاً ضعف قدرات قوى الأمن والجهات المسؤولة عن ملاحقة الفساد والمفسدين على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية من جهة ثالثة.

إن تفاقم أزمة الحكومة يؤكد وجود أزمة بنيوية كان وما يزال يعاني منها العراق منذ سنوات طويلة, وأن اتخذت صيغة أخرى, ولكنها في الجوهر تمس البنية الفعلية للنظام, والتي تنتج بدورها ومعها أزمة ثقة طاحنة بين الأحزاب السياسية المشاركة في الحكم, والتي لم يُبذل الجهد الكافي والفعلي الملموس لمعالجتها والتخلص منها, بل كانت وستبقى تعيد إنتاج نفسها وكذلك إنتاج الأزمات الناشئة عنها, وأعني بها طريقة العمل على وفق نظام المحاصصة الطائفية التي يشجبها المسؤولون بكل قوة وبتصريحات متواصلة في حين يعملون بها وبكل قوة وإصرار عجيب. فمن يتابع الأمور الآتية, على سبيل المثال لا الحصر, سيتأكد من هذا الاستنتاج القائل بوجود أزمة بنيوية عصية تبعد الدولة والمجتمع حتى الآن عن الحل:
1 . عجز رئيس الوزراء عن استكمال تشكيل الحكومة العراقية بتسمية وزراء للوزارات الأمنية والعسكرية الثلاث والتي احتفظ بها طويلاً بيده, أي بيد رئيس قائمة دولة القانون وحزب الدعوة الإسلامية من جهة, وضعف الحكومة وشللها الفعلي الكبير في إنجاز ما التزمت بإنجازه خلال مئة يوم من جهة أخرى.
2 . عجز الأحزاب السياسية الحاكمة في الوصول إلى تنفيذ الاتفاق الذي توصلت إليه الأحزاب السياسية الحاكمة بشأن تشكيل مجلس السياسات العليا عبر وساطة رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني وتحديد صلاحيات هذا المجلس, مما قاد إلى تخلي أياد علاوي عنه والتحرر من التزاماته إزاء التحالف الحكومي!
3 . تجلي الصراع الحزبي وصراع القوائم في نشاط مجلس النواب وتأجيله المتوصل للكثير من القضايا الملحة التي تستوجبها مصالح الشعب العاجلة مما قاد إلى اتهام واضح بابتعاد رئيس المجلس عن الحياد المطلوب من موقع كرئيس للبرلمان.
4 . وتبرز أيضاً في الموقف من الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة بشأن خروج القوات الأمريكية من العراق في نهاية هذا العام, إذ تتصارع الإرادات المتناقضة في هذا الصدد ومن زوايا مختلفة وفق المصالح التي تحرك مختلف الأطراف السياسية. وقوى الحكم تمارس المزايدة والابتزاز في هذا الصدد دون التفكير بمصالح البلاد وتحقيق الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب الجاري في البلاد.
5 . ورغم ما يشار إلى بذل جهود كبيرة لمعالجة الموقف الأمني في البلاد, إلا أن القوى الإرهابية العديدة تجد فرصة ذهبية في الصراعات الراهنة للولوج من خلالها إلى مواقع المعلومات والحصول عليها وإنزال الضربات بالمجتمع وبالمسؤولين لتأكيد عجز قوى الأمن والحكومة عن مواجهتها, خاصة وان الوضع الاقتصادي يسهم في توفير أرضية صالحة لمثل هذه العمليات الإرهابية عبر عناصر بائسة وخبيثة ومستعدة لبيع نفسها للمجرمين القتلة بأبخس الأثمان. ولا يمكن المراهنة على أن من يقومون بكل ذلك هم من أتباع القاعدة أو أتباع المجرم عزت الدوري والبعث الصدَّامي أو من أتباع هيئة علماء المسلمين السنة المتحالفة مع القاعدة والبعث الصدَّامي ومن يوفر لهم الحماية والغطاء السياسي والأمني, بل وإن هناك أطرافاً أخرى تشارك في مثل العمليات الإرهابية استجابة لأجندة إقليمية مناهضة لرغبة الشعب في التطور الديمقراطي في العراق. وقد أدى هذا الواقع, مضافاً إليه الانتفاضات الثورية المستمرة في الدول العربية, قد ساهم بطلب تأجيل عقد القمة في بغداد في هذه الفترة ولأجل غير مسمى, كما يبدو حتى الآن.
6 . عجز الحكومة على التصدي للفساد الجاري في البلاد. فما يزال العراق يحتل الموقع المتقدم بين دول ثلاث هي الأكثر فساداً مالياً وإدارياً في العالم, وهو الذي يؤرق الكثير من شعب العراق بسبب أثاره الضارة جداً على عملية التنمية وتنفيذ المشاريع وعلى دخل الأفراد والاستخدام السيئ والتوزيع وإعادة التوزيع الأسوأ للدخل القومي وتسرب الكثير من موارد الدولة إلى خارج البلاد لصالح وحسابات الشركات الاحتكارية الأجنبية وكثرة من الشركات المحلية والأفراد الفاسدين في مؤسسات الدولة وخارجها.
7 . كما يمكن الإشارة إلى استمرار عدم حل المشكلات العالقة حول المادة 140 من الدستور العراقي والتي تقود إلى مزيد من تراكم الاحتقان في تلك المناطق, وخاصة في كركوك. ويبدو لي بأن الواقع الحكومي وصراعاته ووجهات النظر المتعارضة هي التي تساهم في تعطيل العمل الجاد لحل هذه المشكلات.
إلا أن هذه المشكلات ذات الطبيعة السياسية تجد أرضيتها الفعلية واستمرار فعلها وإعادة إنتاجها في الصراعات المحتدمة على السلطة الفعلية وحول القضايا المالية والنفوذ في الدولة والمجتمع, ومن ثْمَ عواقب كل ذلك على القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والعسكرية المعقدة وعلى حياة ومعيشة فئات الشعب العراقي. وتجليات ذلك تنعكس في مظاهر كثيرة, ولكن بشكل ملموس ومباشر في المظاهرات الشبابية والشعبية التي تطورت خلال الأشهر والأسابيع المنصرمة وأصبحت ملازمة للوضع العام في البلاد.
يمكن لكل متتبع مدقق للواقع العراقي الراهن تسجيل مثل هذا التوصيف وغيره للحالة المرضية التي يعاني منها العراق. ويمكن أن نسمع ذلك من مسؤولين كبار في الدولة والحكومة أو في مجلس النواب وبعض الأحزاب السياسية. ولكن المسألة الأكثر أهمية هي: هل في مقدور حكومة المالكي معالجة هذا الوضع بتعقيداته الراهنة والمتراكمة؟ وإذا كانت المؤشرات تؤكد صعوبة ذلك, فما هي المشاهد المطروحة على بساط البحث لمعالجة الوضع الراهن؟
لقد انتهى أكثر من ثلثي الوقت الذي حدده والتزم به المالكي أمام الشعب ومجلس النواب في تجاوز الوضع والبدء بمعالجة المشكلات التي طرحها المتظاهرون. ولحد الآن لم يتحقق الشيء الذي يؤكد القدرة على معالجة الوضع القائم؟ فما العمل؟
يبدو لي إن الوضع في العراق قد دخل في عنق زجاجة شديدة الضيق. ولا يمكن الخروج منها وفق ميزان القوى الراهن والذي لا يمكن أن ينتهي لصالح أي من القوى المشاركة في الحكم على حساب القوى الأخرى, وكلها لا تريد التنازل عما تسميه حقوقها المشروعة. ويضعنا هذا الواقع أمام أربعة احتمالات لا غير, كما أرى, , ليس بالضرورة قادرة كلها وبشكل متساوٍ على حل المعضلات:
الأول: إبقاء الوضع على حاله الراهن وهو الذي سيقود إلى تشديد الأزمة وانفجارها في كل لحظة لا يمكن تقدير نتائجها أو عواقبها. وهو لا يمكن القبول به.
الثاني: إجراء تعديل وزاري بيتغير توزيع القوى بما يعتبر دفعاً للوضع السياسي. ولكن هذا الأمر غير مضمون العواقب في ظل موازين القوى الراهنة, إذ أن التعديل الوزاري لا يغير ميزان القوى, بل يكرسه.
الثالث: تخلي المالكي عن رئاسة الحكومة واختيار شخص مستقل وحكومة تتشكل من مجموع من الوزراء التكنوقراطيين الذين يجسدون المصالح العامة للمجتمع وليس المصالح الخاصة للقوى السياسية المشاركة في الحكم. على أن تقوم هذه الحكومة بطلب إلغاء مجلس النواب وإجراء انتخابات عامة جديدة بعد مرور ستة شهور على تشكيل الوزارة الجديدة. إذ يمكن أن تنشأ تغيرات في موازين القوى بما يساعد على تشكيل حكومة أكثرية رغم استمرار عملية التوافق المحتملة فيها ولكن بكفاءة أعلى.
الرابع: تقوم حكومة المالكي نفسها بطلب إجراء انتخابات جديدة على مستوى المحافظات والمجلس النيابي العراقي في مدة أقصاها ستة شهور. وبهذا يمكن أن تتبلور اصطفافات سياسية واجتماعية جديدة تساعد على تشكيل حكومة جديدة لا تقوم على المحاصصة الطائفية, رغم صعوبة ذلك, بل على أساس الأكثرية البرلمانية والتحالفات التي يمكن أن تنشأ. إذ إن هذا الحل يضمن خلق أجواء جديدة.
والتغييرات المحتملة في بنية المجلس النيابي الجديد يمكن أن تبرز نتيجة خمسة متغيرات محتملة:
1. إن الحكومة التي تجري الانتخابات غير حزبية وغير خاضعة لقوى سياسية معينة بل حيادية ومستقلة.
2. ستنشأ في الغالب الأعم مستجدات سياسية تقود إلى تشكيل تحالفات وقوائم انتخابية جديدة تختلف عن تلك التي تمت في العام 2010.
3. نشوء وعي سياسي واجتماعي أكثر قدرة على التمييز بين البرامج والمرشحين والقوائم الانتخابية وتحالفاتها في ضوء تجربتي 2005 و2010.
4. تحقيق إشراف دولي وإقليمي من جانب الأمم المتحدة والجامعة العربية ومجالس وجمعيات حقوق الإنسان والمجتمع المدني على الانتخابات المقترحة أكثر من الفترات السابقة وإلزامها بملاحقة احتمالات استخدام الأموال والعطايا والتزوير ومنعها من الحصول قدر الإمكان.
5. إجراء تغيير كامل في بنية المفوضية المستقلة للانتخابات. إضافة إلى ضرورة التشدد وأكثر من السابق في الرقابة على البرامج والدعاية ومنع التدخلات الخارجية والداخلية أو ممارسة الفكر القومي الشوفيني أو الفكر الديني والطائفي السياسيين أو التمييز الديني في المنافسة الانتخابية.
من هنا يبدو لي بأن الحل الثاني هو الأكثر اقتراباً من حاجة العراق وأكثر إنصافاً للجميع ويسمح بمعالجة أكثر واقعية وأكثر قبولاً من جانب المجتمع. إلا إن هذا وغيره خاضع للواقع الراهن وموازين القوى.
على وفق تتبعي للوضع في العراق لم يحصل حتى الآن ذلك التغيير العميق والواسع في الوعي السياسي والاجتماعي في صفوف المجتمع العراقي, رغم معاناته الكبيرة وتظاهراته المتسعة, بحيث يمكن تغيير موازين القوى كثيراً, مع إن ما يحصل في الدول العربية من انتفاضات تدعو للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان يدعو إلى التفاؤل في إمكانية حصول تحولات مهمة في وعي الإنسان العراقي وبالتالي في خياراته الانتخابية. إن هذا الأمل والتفاؤل يبقى قائماً وهو في صالح المجتمع كله, ولكن ليست هناك عصا سحرية قادرة على تحقيق ذلك, بل يستوجب الكثير من الجهد من جانب القوى السياسية الديمقراطية وتلك التي ترفض الطائفية السياسية والمحاصصة القائمة على أساسها وتدعو للأخذ بمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية التي تستجيب لتحقيق وحدة النسيج العراقي وتفاعله وتضامنه وحقوقه.
كل المؤشرات التي بين أيدي الكاتب حتى الآن لا تشير إلى احتمال الأخذ بأحد الاحتمالات الثلاثة (2-4) من جانب رئيس الوزراء أو قيادات الأحزاب السياسية. ولكن إذا تعذر على رئيس الوزراء إيجاد الحل المناسب في إطار الحكومة الراهنة, فإنه, وكما أرى, سوف يجد نفسه أمام أحد تلك الاحتمالات, إذ لن يجد طريقاً آخر غير ذلك, ولن يقبل التضحية بحياته السياسية والتي لا أظن أنه يقبلها لنفسه, بل سيقبل التحدي.
إن كل الخيارات التي أمام القوى السياسية العراقية صعبة, ولكنها يمكن أن تقدم البديل لوضع الركود الراهن في الحياة السياسية الداخلية ولن تغير من حقيقة هذا الجمود السفرات الخارجية وعقد الاتفاقيات الدولية, إذ إنها لا تبعد انتباه الناس عن أوضاعهم الداخلية التي لا نريد العودة لتوصيفها ثانية.
إن الأزمة الراهنة طاحنة ومؤذية للجميع وليس هناك من يستفيد منها سوى قوى الإرهاب وقوى الفساد التي تعيش وتنمو وتتطور على تعقيدات وجمود الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إنها مؤذية لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء وجميع أعضاء مجلس النواب وللأحزاب المشاركة في الحكم, وتلك التي خارجه, ولكنها مؤذية بصورة أكبر للشعب العراقي بكل مكوناته القومية. فهو المستهدف من قوى الإرهاب ومن يقف خلفها. ولهذا لا بد من إيجاد الحل المناسب الذي يسهم في البدء بمعالجة أزمة الحكومة والمجتمع في آن واحد.
إن الأمل وحده لا يكفي للوصول إلى حل للأزمة, بل يستوجب العمل الجاد والدؤوب والمخلص من جانب الجميع, وخاصة من تلك القوى التي تعتبر سبباً في نشوء الأزمة المستعصية الراهنة. ومع إن الأزمة الراهنة هي نتاج تراكمي معقد ومركب وطويل الأمد, فإن تعقيدات ومشكلات كثيرة جديدة نشأت وتبلورت خلال الأعوام الأخيرة وتراكمت فوق القديم منها وزادت من حدة الأزمة التي يعاني منها المجتمع.
في حالة عدم حل الأزمة من جانب رئاسة الجمهورية والحكومة ومجلس النواب والأحزاب الحاكمة عبر اتخاذ إجراءات محددة ومعروفة للجميع, فإن حلها سيكون بيد الشعب العراقي بكل مكوناته. وهذا ما برهنت عليه الأحداث السلمية الأخيرة في الدول العربية, وفي العراق أيضاً حين خرجت المظاهرات السلمية مطالبة بالإصلاح, وعندها ستجد القوى والأحزاب والسلطة السياسية نفسها أمام واقع جديد لم تستطع تصوره قبل ذاك.
Top