• Friday, 29 March 2024
logo

الاخلاق التواصلية والديمقراطية لدى يورغن هابرماس (1-3)

الاخلاق التواصلية والديمقراطية لدى يورغن هابرماس  (1-3)
يورغن هابرماس ( مواليد 1929) مازال من ابرز الاصوات الفكرية الفلسفية الرصينة والعميقة في العالم المعاصر وهو من اكبر فلاسفة العصر ووريث اصيل ل " مدرسة فرانكفورت" الفكرية المؤسسة في المانيا 1923 وهو في أفكاره كان ومايزال من أبرز المدافعين عن العقل ( الديمقراطية وبالاخص الديمقراطية التشاورية deliberative democracy) ضد كل مظاهر اللاعقلانية في الحياة الفكرية والسياسية ( التوتاليتارية كالنازية والفاشية) مؤسسا بذلك اساسا لنظرية اجتماعية نقدية جديدة. لقد كان هابرماس ومايزال مدافعا مستميتا عن المواطن وحقوقه ومشاركته في الحياة السياسية وفي القرارات السياسية الهامة وقد اشتهر هابرماس باطروحاته حول ( الميدان العمومي /الفضاء العمومي ) وكيفية تحريك وتنشيط وتفعيل المواطن في الحياة بحيث يمكن ان يلعب دورا ايجابيا.
لقد طرح هابرماس فكرة (التواصل والتواصلية)في كتابه الشهير( نظرية الفعل التواصلي Theorie des kommunikativen Handelns) الصادر سنة1981 حيث يؤكد على التفاهم والتواصل والوصول الاجماع حول مختلف القضايا ( المواجهة للمجتمع والدولة )ولهذا فان العالم بحاجة الى الاخلاق التواصلية لاجل خلق شروط معيارية للاتفاق حول الحقيقة التي هي في حالة تحول دائم وهذا بحد ذاته يشكل اساسا للمناقشة العامة التي تشكل الفعل التواصلي والذي هو ضروري جدا للعلاقة العضوية مابين الفعل العقلاني والممارسة العقلانية.وفي هذه العملية العقلانية فان اللغة تشكل وسيلة التفاهم والحوار كاساس لعمليةالتواصل مابين المواطنين.
اذن هناك تركيز من قبل هابرماس على الفعل التواصلي المرتبط مع الاخلاق وهذا مايطرح عدد من التساءلات منها:
• ماهي امكانيات الاخلاق التواصلية ؟ هل هي مطلقة ام محددة؟
• كيفية تحقيق هذه الاخلاقية في المجتمع؟
• ماهو دور لغة الحوار والنقاش بين المواطنيين؟
• ماهي ملامح الفعل التواصلي؟ هل هي غائية أم عقلية؟

لقد كان الغرض الاساسي لهابرماس في مسألة الفعل التواصلي هو تحرير الفكر من الخطاب المتمركز حول فلسفة الذات subjective وربط هذا الفعل بالاخلاق ولذلك اصبحت الاخلاق التواصلية من المحاور الاساسية في فلسفته.وفي هذه المحاولة يهدف هابرماز الى اقامة اطار نظري نقدي لتكوين الارادة الحرة العاقلة.
في هذا الفعل الاخلاقي التواصلي هناك دور مهم جدا للغة وللتواصل عبر اللغة في الحياة الاجتماعية والسياسية.وفي هذا تمكن هابرماس من اعادة بناء نظرية اخلاقية للتواصل عبر اللغة.فاللغة هي الوسط الذي من خلاله يتفاهم الذين يرغبون في التواصل.
اذن فان الفعل التواصلي يحدد نوع من التفاعلات التي تنظم عبر اللغة.هذه التفاعلات هي تواصل مابين المواطنيين وبلورة القوانين التي تتحكم فيها ، ولكن يجب ان يعكس هذا التواصل علاقة حرة موازية بين مختلف فئات المجتمع تهدف الى بناء وعي حر الذي يؤدي الى تقوية العلاقة مابين الفرد المواطن والمجتمع بحيث سوف لاتحكمه الايديولوجيات المفروضة من قبل الانظمة السياسية وتعمل على كشف وازالة الزيف والتزييف.ان هذا التناغم مابين الانسان ووعيه من جهة والمجتمع ووعيه من جهة اخرى يشكل مدخلا للمجتمع الجديد المبني على الفعل التواصلي والعقلانية. ان هذه الصيرورة العقلانية على المستوى المؤسساتي لايمكن ، يكتب هابرماس ، " ان تتم الا في وسط من التفاعل المتوسط لغويا ذاته ، اي عن طريق ازالة الحواجز والعوائق امام التواصل. والوسط الوحيد الذي تكون فيه العقلنة ممكنة هو وسط النقاش العام المفتوح غير المقيد ...، حول صلاحية المعايير والمبادىء الموجهة للفعل المنشود ، في ضوء التأثيرات الاجتماعية – الثقافية ...وعلى كافة مستويات عمليات تشكل الارادة السياسية ..." ( هابرماس ، التقنية والعلم كأيديولوجيا ،ص 117)
ان المجتمع الجديد هو العالم المعاصر او العالم المعاش (الذي نعيشه Lebenswelt , Living world) والذي له حسب رؤية هابرماس ثلاث اسس ( التي تشكل جوهر الاخلاق التواصلية) هي:
• الديمقراطية
• العدالة
• القانون
وهذه الاسس هي مرتبطة مع بعضها البعض ومتشابكة بدرجة لايمكن الكلام عن واحدة من هذه الاسس دون التطرق الى الاخرى.ولكننا هنا سنركز على توضيح رؤية هابرماز حول الديمقراطية ومدى ارتباطها بالاخلاقية التواصلية.

لقد تناول الفلاسفة ابتداء من افلاطون وارسطو الديمقراطية واعطوا تصوراتهم حولها الا انها كانت اساسا مرتبطة بفلسفة الذات ولذلك فان هابرماس في تناوله لموضوعة الديمقراطية انتقد هذا التوجه الذاتي في مناقشة قضية كبرى كالديمقراطية. وعليه يتناول هابرماس هذه القضية من زاوية اخرى مهمة وهي زاوية الحوار والنقاش فيقول ان الديمقراطية مرتبطة بالفعل التواصلي وان على المشتركين في الحوار ان ينسقوا في برامجهم ونقاشاتهم من خلال التفاعلات المتواصلة. وبهذا الصدد يؤكد ان النموذج المرغوب للديمقراطية هو ذلك النموذج الذي يعطي لجميع المواطنين الامكانية في التعبير عن اراءهم وتوجهاتهم وعن افكارهم الثقافية وكذلك يعطي الامكانية والفرصة للتفاهم وهذا لايمكن تصوره الا من خلال المناقشات العامة.
ولكن هنا يبرز تساءل حول: هل ان هذه الحوارات ( رغما عن كونها غير مقيدة) تجري وفق اجراءات معينة؟
يقول هابرماس بهذا الصدد ان هذه الحوارات والنقاشات هي حرة وغير مقيدة ولذلك فانها هي التي تحدد الاجراءات وشروط التواصل المؤدية الى تكوين الرأي والارادة الساسية وبالتالي فانها تشكل وسطا تلتقي فيه السلطة والميدان العمومي للمواطنين.
وعليه فان نظرية هابرماس في الديمقراطية تحتوي على ثلاث مفاهيم جوهرية هي :
• العقلانية
• السلطة
• الميدان العام
وهكذا فان نظرية هابرماس في الديمقراطية هي التشاورية ومن هنا انبثق في علم السياسة والفلسفة والسوسيولوجيا مفهوم جديد للديمقراطية هي ( الديمقراطية التشاورية Deliberative Democracy) وارتبط بوثوق مع فكر هابرماس.

في كتابه (الحقيقة والتطبيق Faktizitaet und Geltung) الصادر 1999يتناول هابرماس مفهومه الخاص حول الديمقراطية باستعراض سوسيولوجي لتطور نظرية الديمقراطية منذ القديم والى الزمن المعاصر ونتج عن هذه المحاولة نظرية التعددية pluralismustheorie
والتي تعد بمثابة جسر ربط مابين النماذج المعيارية للديمقراطية ونظرية النظمية والاقتصادية. ان هذه النظرية للتعددية تحاول ان تفهم السياسة كوسيلة فقط ولهذا فان السلطة السياسية والادارية هي شكل اخر للسلطة الاجتماعية وهذا ينشيء جسرا مابين النوذج الليبرالي للديمقراطية والتجربة العلمية.وفي مفهوم هابرماس فان السلطة الاجتماعية تعتبر كمعيار لكفاءة تحقيق مصالح منظمة التي تتجسد في المنافسات الحزبية والانتخابات والحكومة والمعارضة.
يناقش هابرماس ثلاث نماذج للديمقراطية و بالشكل الاتي:

1. النموذج الليبرالي Das liberale Demokratiemodell
في هذا النموذج تتم برمجة الدولة لخدمة المصالح الاجتماعية حيث الدولة هي جهاز للادارة العمومية وان المجتمع هو نظام للتفاعلات والاتصالات في اطار اقتصاد السوق
2. النموذج الجمهوري Das repblikanische Demokratiemodell
على العكس من النموذج اعلاه، فان النموذج الجمهوري لايركز على وظيفة التوسط مابين المجتمع والسلطة بل انه يركز على مجمل الصيرورة الاجتماعية وهنا تعتبر السياسة انعكاس الحياة الروحية الاخلاقية المشتركة وبناء الارادة والوعي لتفاهم وارتباط للمواطنين الاحرار ومتساوين قانونا.وهنا تدخل مسالة التضامن كعملية بناء ارادة سياسية ومن خلال تقرير المصيرالمقرر للمواطنين
3. النموذج التشاوري Das deliberative Demokratiemodell
ان التشاور في معناه الاولي يعني الاتصال العمومي حول القضايا السياسية من خلال الاجتماعات ومؤسسات الراي العام. هابرماس يضع امالا كبيرا على التشاورية لانجاح العملية الديمقراطية حيث ان الديمقراطية التشاورية هي ليست فقط وسيلة لزيادة المعلومات الموضوعية للقرارات السياسية بل كذلك تلعب دورا مهما كجهاز " تصفية أخلاقية moralischer Filter" وبهذا فان هذا النموذج يكتسب امكانية تجريبية تتكون من خلالها ارادة جماعية تؤكد ليس فقط على التفاهم الاخلاقي بل كذلك على الاختيار العقلاني للمصالح وذلك على اساس ان المجتمع هو ليس فقط مجموعة انتاجية لاشباع الحاجات بل كذلك هو لاجل المحافظة على القيم الاخلاقية والثقافية.وعليه فان المجتمع لايقوم فقط على العمل بل كذلك على المشاركة والتفاعل.
وهكذا فان هذا المفهوم التشاوري للديمقراطية يقودنا الى مفهوم جديد للمجتمع لاتكون الدولة فيه تحتل مركز الصدارة بل ان التحاور والنقاش يحتل الاولوية في الحياة السياسية وبهذا يمكن بناء الرأي والارادة العمومية للمواطنين.
ومن هنا يطور هابرماس رأيه حول الديمقراطية التشاورية حيث يدعوا الى ديمقراطية راديكالية radikale Demokratie كشرط مسبق لدولة القانون Rechtsstaat وتتطلب هذه الديمقراطية انتاجية المواطن ومشاركته في العملية السياسية وضما الوعود المعطاة له حول التنظيم الذاتي الديمقراطي للمجتمع. وهذا التوجه يفهمه هابرماس بكونه بديل عن نظرية الديمقراطية النخبوية.
ان الديمقراطية التشاورية هي مرتبطة بوثوق مع الحياة العامة (والمجتمع المدني) والتي هي اداة سياسية مؤثرة
( يتبع في العدد القادم)



















(2-3)

المجال العام – الفضاء العام ( بانتاى كشتى – فه زاى كشتى)

تحتل فكرة المجال العام (او الفضاء العام او الميدان العام public sphere) مكانة بارزة في الفكر السياسي منذ عهد ازدهار الحضارة اليونانية قبل حوالي 5000سنة حيث تناول الفلاسفة اليونانيون في مناقشاتهم مسألة تحديد المجال العام والمجال الخاص . لقد كان المجال العام يمثل كل ماله علاقة مع السياسة بينما المجال الخاص كان يعني شؤون العائلة والفرد.
وبعد عصر النهضة والتنوير عادت الفكرة مرة اخرى الى المناقشات السياسية وعلى الاخص
مايتعلق بمفهوم والحكم الديمقراطي. وكان هذا بارزا في الفلسفة الليبرالية التي كانت تناقش مسألة اعادة تعريف السياسة وتحديد مجالات اختصاص الدولة.
لقد درس (هابرماس ) هذا التراث الانساني الضخم وكتب رسالته الجامعية حول (التغييرات الهيكلية للمجال العام ) في سنة 1962وكانت الفرضية الجوهرية في رسالته هي :
كيف يمكن التمهيد للديمقراطية وتعزيزها عن طريق المشاركة الواسعة للمواطنين في الشأن السياسي؟ وكل هذا في اطار خطاب عقلاني انتقادي الذي يركز على اهداف المجتمع السياسي المتعلقة بتحقيق الخير العام والمنفعة العامة المشتركة للمواطنين.
اذن فان المجال العام لدى (هابرماس) هوالخير العام الذي يمثل المصلحة العامة المشتركة للمواطنين وهو بهذا فانه يجمع مابين العقلنة السياسية والمشروعية الديمقراطية. وهكذا فان الديمقراطية تجد شرطها النهائي في النشاط التواصلي المرتبط بالاخلاق التواصلية الذي هو حوار بين عقول المتحدثين هدفها اقامة علاقات تفاهمية ودية حول قضايا مهمة تفرض نفسها في الحوار.
ان هذا الفضاء العام يجمع مابين العقلانية والديمقراطية حيث ان الديمقراطية في نظر (هابرماس) تجد شرطها النهائي في مسألة التداولية والاتصال يتجلى في حوار بين عقول المتحدثين والذي يستهدف :
• اقامة علاقات ودية سلمية
• اقامة جسور التفاهم بين المتحاوريين
وكل هذا يؤدي الى بناء اساس عقلاني للمناقشات والحوار بين المتحدثين والمحاوريين.
وهكذا فان هذا النوع من الحوار هو لاجل الوصول الى الحقيقة والتعبير الصادق عن الذات وهنا فان التواصل سيؤدي الى اقامة علاقة وثيقة مابين النظام أو النسق System/Order ومابين عالم الحياة Lebenswelt.وفي هذا الوضع يلعب العقل دورا مميزا في العديد من حقول الحياة ومنها:
• ارساء قيم المساواة بين المواطنيين في المجتمع ونظام الحكم
• احترام سيادة القانون وصولا الى اقامة نظام ديمقراطي
وكل هذا يجري في المجال العام ولكن كيف؟
في رؤية (هابرماس) فان التواصل الاجتماعي وتحقيق الحوار الحر بين المواطنيين وتحقيق السلم المدني وحرية الفرد يجب ان يجري في المجال العام
ان المجال العام هو مجال يختلف عن مجال البرلمان الذي هو جزء مهم من مؤسسات الدولة ويدين بالولاء للسلطة السياسية بينما المجال العام هو مختلف لانه هو مجال نقي للمواطنيين ويدين بالولاء للشعب.وهذا المجال العام هو متحرر ايضا عن الهيمنة الاقتصادية لان الانضمام الى المجال العام لايتطلب اية شروط اقتصادية ولا صفقة اقتصادية. ان المواطنيين المحرومين من المساهمة في الفعل السياسي يجدون انفسهم وذاتهم في المجال العام ومنه يبداون في التاثير في واقع الحياة السياسية. ان المجال العام هو مجال مهم وقناة لاجل العمل على " فك احتقان" الذي يظهر في اي مجتمع ، لانه في العديد من الاحيان فان العلاقات المتعددة ( السياسية ، الاقتصادية ، الفكرية ...) بين السلطة السياسية والشعب قد تصل الى " طريق مسدود closed road" تخلق نوعا من اليأس لدى المواطنين من حيث عدم قدرة سلطة الدولة في حل المشاكل الموجودة ولذلك يظهر المجال العام ك " منقذ " للوضع باعتباره القناة الموصلة مابين الشعب والسلطة السياسية . ان هذا المجال العام هو الميدان الذي تجتمع فيه الافكار لتحقيق التغيير والخروج من " الازمة".ولكن هذا لن يتحقق الا في الدول التي تؤمن بفعالية المجال العام اي انه متحقق فقط في الدول الديمقراطية. أما في غيرها من الدول فان هذا المجال " مسلوب " من الشعب لانه لايوجد اي مجال مسموح به خارج الدولة.
وعليه فان المجال العام هو صمام أمان للسلم والتماسك الاجتماعي. (هابرماس) نفسه يراهن على المجال العام للخروج من الازمة الفكرية المحيطة بالدولة.
اذن المجال العام مجال مهم وضروري للدولة الديمقراطية وهذا المجال يركز على قضايا مهمة منها:
• اتساع مجال المشاركة السياسية
• تأثير وسائل الاتصال الحديثة في حقل السياسة وتحريك المواطنين في هذا المجال
• نوعية الخطاب النقدي – العقلاني
• عالمية حقوق الانسان
• التحولات الديمقراطية
• تدفق رؤوس الاموال والاستثمارات
كل هذا يؤثر بالطبع على الحياة الاجتماعية وبالتالي على الحياة السياسيةز
ان المجال العام لدى هابرماس يحمل عدة معان وحسب تعاملنا معه كمنظومة نقدية لمواجهة الدعاية المفروضة المعبرة عن قوة وممارسة السلطة السياسية والاجتماعية في المجتمعات المعاصرة.ان مفهوم المجال العام يحمل صفتين اساسيتين هما : العقلانية والشمولية وهو عبارة عن شبكة من الاتصالات والتواصل سواء في المحتوى او في الراي.وفي رأي البروفيسور( سولتر Solter) في كتابه ( الحداثة ونقد الثقافة Moderne und Kulturkritik) فان موقع مفهوم المجال العام لدى (هابرماس) يقع مابين تحليله لوسائل الاتصالات الحديثة ونظريته للديمقراطية. ان اساس المجال العام لدى (هابرماس) هو اساس لمجتمع منظم ديمقراطيا. ومنذ اصداره لكتابه ( التحولات الهيكلية) عام 1962فان (هابرماس)
يعرف الديمقراطية من خلال مجال عام فعال الذي سيصبح من واجبه ومهماته ان يعمل من بناء الرأي والارادة عملا مؤسساتيا.ان هذا المجال العام يصبح في مفهوم ( هابرماس) بمثابة محور الدولة الدستورية البرجوازية.











الاخلاق التواصلية والديمقراطية لدى يورغن هابرماس (3-3)
الميدان العام والميدان السياسي
في رأي (هابرماس) فان المجال العام هو ذلك الميدان الذي يفسح المجال للمواطنين بان يعبروا عن اراءهم بكل حرية وبدون تقييد وهذا مايؤدي الى اقامة " تواصل عقلاني rationale Diskurs". ان المجال العام يشمل العديد من الظواهر منها: السلوك ، اللاعبيين ، المجموعات. ولكن هذا المجال العام هو ليس بمؤسسة أو هيئة أو منظمة وكذلك هو ليس عبارة عن " سلة من القيم Normengefuege"تشمل الاختلافات في الصلاحيات والادوار وتنظيم الاعضاء في المجتمع ، وحتى انه لايشكل نظاما System الا في حدود ضيقة جدا.
وفي رأي ( هابرماس) في كتابه المهم الوقائع والتحقق Faktizitaet und Geltung الصادر عام 1999فان المجال العام يعبر عن نفسه بكونه شبكة للتواصل اي شبكة للتعبير عن الرأي بحيث ان تدفق الاتصالات يجري تصفيتها وتنظيمها بحيث ان المجال العام سوف يتوسع لكي يشمل الاراء العلنية المرتبطة بمواضيع متخصصة.
وفي رأي الباحث ( سولتر Soelter) فان مكانة مفهوم المجال العام لدى ( هابرماس) يقع مابين تحليله التقدي الثقافي للاتصال الجماهيري الحديث ونظريته حول الديمقراطية وان هذه المكانة هي الاساس الجوهري لمجتمع ديمقراطي منظم ذاتيا.
ومنذ عام 1961حيث اتم (هابرماس ) كتابة اطروحة التأهيل Habilitationبعنوان ( التحولات الهيكلية في الميدان العام Strukturwandel der Oeffentlichkeit ) فان تعريف الديمقراطية لدى ( هابرماس) يجري في اطار الميدان العام الفعال. وهنا فان واجب الميدان العام هو مأسسة اجراءات بناء الرأي والارادة لدى المواطنيين. وهكذا فان مفهوم الميدان العام وحسب رأي ( سولتر) يقوم بدور مفهوم معياري في نظرية (هابرماس) حول الديمقراطية حيث يتعامل (هابرماس) مع مفهوم الميدان العام كمفهوم رئيسي في الدولة الدستورية البرجوازية.
وفي كتابه ( الوقائع والتحقق) المشار اليه اعلاه فان ( هابرماس) قد طور مفهوم الميدان العام حيث اعتبره بمثابة (شبكة من الاراء) التي تعبر عن نفسها من خلال السلوك التواصلي.
وفي المجتمعات المتطورة وبالغة التعقيد فان الميدان العام يشكل بناء وسيطا مابين النظام السياسي من حهة والمجالات الخاصة لعالم الحياة Life worldوأنظمة السلوك المتخصصة الفعّالة من جهة اخرى.وفي اطار الاجراءات الديمقراطية فان الميدان السياسي العام وحسب رأي (هابرماس) هو هيكل اتصالي يجد أساسه في المجتمع المدني وبهذا فانه متجذر في عالم الحياة Life world. ان الميدان العام هو مكان ومجال للاتصال ويربط مابين المواضيع والااء وينظمها ويقدمها للنظام السياسي.
وفي اطار مناقشات (هابرماس) حول مبادىء الدولة القانونية فانه يؤكد على المفهوم المعياري للميدان العام وبهذا فان بناء الارادة السياسية سينظم في اطار سلطة الدولة التشريعية.وان ايقاف او الضغط على تدفق المواضيع والمعلومات للميدان العام سيؤدي الى تهديم اساس المجتمع المدني.وهنا يبرز دور مهم للميدان السياسي العام وهو ان هذا الميدان سيكون ميدان يجتمع فيه المواطنون لتبادل الاراء ومناقشة ونقد القضايا والمساءل السياسية.وان هذا الميدان هو سابق في الظهور على القاون الذي لم يعمل في اوروبا الا على ضمان الحقوق والحريات.
اذن يؤكد (هابرماس) على الميدان السياسي العام الذي يرتبط بالمبادىء النتعلقة بالحريات والسياسات الديمقراطية. ومن هذه المبادىء:
• المناقشة الحرة للقضايا السياسية
• التقد العقلاني لتلك القضايا
• امكانية تحول الرأي الى عملية حوار عقلاني متحرر من السيطرة والهيمنة
ولكن فان هذا الميدان لايتشكل تلقائيا كما اكدت عليه النظريات الليبرالية الكلاسيكية بل بالعكس فان هذا الميدان يتشكل عبر شروط هيكلية ووضعه الخاص في المجتمع ومن أهمها هنا هو افساح المجال امام مشاركة المواطنيين في نقاش عقلاني حر.ولذلك فان بروز عوائق وصعوبات تؤدي الى تقييد هذا النوع من النقاش الحر وتؤدي الى ان يصبح التواصل " تواصلا مشوها Distorted communication". ان هذا التواصل المشوه يتكون نتيجة للتأثير الممارس من قبل السلطة على الحوار الحر مابين المواطنيين وبالنتيجة سيتكون لدينا ، كما يسميه (هابرماس) في كتابه (ازمات الشرعية في الرأسمالية المتطورة Legitimationsprobleme der Spaetkapitalismus )الصادر عام1973اجماعا زائفا لا تتوافر فيه الشرعية العقلانية.وهذا يؤدي الى نتيجة خطيرة وهي اضمحلال الميدان العام وعزل المواطنيين عن عمليات اتخاذ القرار وبالتالي فصل السياسة عن المواطنيين مما يؤدي الى فقدان أهميتهم السياسية والاجتماعية وهذا يتجلى في ان القوانيين والتشريعات في الدولة ستصدر ليس استنادا الى الحوار العقلاني بل الى مساومات واتفاقات حسب المصالح.ولذلك يقول (هابرماس) في كتابه ( أزمات الشرعية...)مايأتي:
" ان نزع الصفة السياسية عن الجماهير واضمحلال الميدان العام ، باعتباره تنظيما سياسيا يعد أحد مكونات نظام الهيمنة الذي ينزع الى عزل المسائل العملية عن النقاش العام . ان الممارسة البيروقراطية للسلطة يقابلها ميدان عان مقيد بأشباح الاعلام والدعاية."
ولذلك يرى ( هابرماس) انه لاديمقراطية بدون الاستماع الى الاخرين والاعتراف بهم كما يقول ( الان تورين ) في كتابه ( نقد الحداثة)الصادر 1997ويضيف بان النشاط الديمقراطي في البرلمان يفترض اولا الاعتراف بموقف الاخر. وهنا يشير ( هابرماس ) الى ثلاثة أبعاد مهمة للديمقراطية وهي:
• الاجماع المستند الى توجهات ثقافية مشتركة
• الصراع الذي يؤسس لخصومة في مواجهة البعض للاخر
• الحل وسط الذي يجمع بين هذا الصراع واحترام اطار اجتماعي يضع حدود لهذا الصراع
ولكن لكي تكون هناك ديمقراطية ، كما يؤكد (الان تورين)،فانه يجب وضع حدود للصراعات الاجتماعية وذلك عن طريق قيم مثل قيم الحداثة ، العقلنة ، تحقيق الذات.
اذن فان الميدان السياسي العام المتصف بالديمقراطية يجمع مابين العقلنة السياسية والشرعية.
ان الديمقراطية هي صيرورة مستمرة وانها عملية متواصلة تتطور ويتعين العمل على تحقيقه.
Top