• Wednesday, 24 April 2024
logo

الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وبناء المجتمع المدني الديمقراطي

الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وبناء المجتمع المدني الديمقراطي
انتهت الحرب العالمية الثانية بسقوط دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان) بعد حرب دامت أكثر من ست سنوات وكلفت البشرية زهاء أكثر من 60 مليون نسمة بين عسكري ومدني ومن الرجال والنساء, إضافة إلى 35 مليون نسمة من الجرحى والمعوقين والمشردين والمفقودين ودمار هائل وخسائر مالية كبيرة وخراب اقتصادي في الدول الأوروبية وغير الأوروبية المشاركة في تلك الحرب على نحو خاص. وبهذا تلقت النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية ضربات مدمرة للفكر العنصري والاستبدادي والعسكري والعدواني لصالح الحرية والديمقراطية والسلام على الصعيد العالمي. ومع نهاية الحرب تشكلت الهيئة العامة للأمم المتحدة ومنها تشكلت لجنة من تسعة أعضاء (وكان العراق أحدى هذه الدول الأعضاء) لوضع مشروع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1946/1947. ومن ثم أقر هذا الإعلان في العاشر من شهر كانون الأول/ديسمبر 1948. وقد مضى على ذلك حوالي 63 عاماً, وصدر تحت عنوان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
إلا أنه وبمرور الزمن برزت حاجات ومتطلبات جديدة فرضت إصدار وثائق أخرى مكملة للإعلان العالمي وبشكل خاص في النصف الثاني من العقد السابع من القرن العشرين حيث أطلق على هذه المجموعة من الوثائق الدولية مصطلح الشرعة الدولية لحقوق الإنسان في العام 1947, إذا كان العمل جارٍ منذ ذلك الحين لإنجاز وثائق ثلاث أساسية هي الإعلان العالمي والعهدين الدوليين. وعلى هذا الأساس فأن المصطلح يتضمن الوثائق الخمس التالية تحديداً:
1 . الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948.
2. العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966.
3 . العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966.
4 . البرتوكول الاختياري المحلق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (الشكاوى الفردية) (1966( .
5 . البرتوكول الاختياري المحلق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية
(إلغاء عقوبة الإعدام) (1966(.
وقد أطلقت لجنة حقوق الإنسان في دورتها الأولى المنعقدة في ديسمبر 1947 على سلسلة الوثائق التي كان يجري إعدادها حينذاك على هذا المصطلح ( الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و العهدين الدوليين(.
ولا شك في أن الفترة اللاحقة لعام 1966, شهدت صدور مجموعة من الوثائق الأخرى ذات الأهمية البالغة لحقوق الإنسان على الصعيدين المحلي والعالمي التي تمس حقوق المرأة وحقوق الطفل وتحريم التعذيب وتحريم العنصرية وحقوق أهل أصل البلاد وحماية البيئة وحق الإنسان في بيئة نظيفة...الخ. وتشمل هذه الوثائق جميع بنات وأبناء البشر بغض النظر عن قوميته والدولة التي يعيش فيها والدين أو المذهب أو الفكر الذي يعتنقه وينتمي إليه أو اللون أو اللغة أو الجنس (ذكر أم أنثى). كما إن جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية تعتبر كلها تجاوزات على حقوق الإنسان والشعوب والتي أدين بها نظام صدام حسين في عمليات ومجاز الأنفال وحلبپة أو تلك الجرائم التي ارتكبت بحق الكُرد الفيلية تقع في ذات نفس الخانة.
إن جميع هذه الوثائق الدولية التي تمس حقوق الإنسان تستند إلى مبدأ أساسي واحد هو: "لا يجوز المساس بكرامة الإنسان ". وهذا المبدأ يتصدر الكثير من دساتير الدول المتحضرة والمدنية, إذ إن جميع المسائل التي تلحق ضرراً بالإنسان وتمس حريته الشخصية وحياته هي مساس مباشر أو غير مباشر بكرامة الإنسان.
فعلى سبيل المثال: معاناة الإنسان من البطالة والفقر والحرمان والاعتقال الكيفي دون صدور أوامر قضائية مبررة أو ممارسة التعذيب النفسي والجسدي أو ألوقوع فريسة التشرد بسبب عدم وجود مأوى أو مسكن للإنسان, أو التهجير القسري للفرد, أو إجباره على تغيير قوميته أو دينه أو مذهبه أو الفكر الذي يحمله والسياسة التي يراها مناسبة, أو ضرب المظاهرات السلمية بالحديد والنار التي تعتبرها لائحة حقوق الإنسان حقاً مشروعاً لبني البشر في كل مكان. كما إن فرض الأحكام العرفية (الطارئة) التي تقيد حركة وحرية وحقوق الإنسان أو تقييد حرية المرأة أو ممارسة العنف ضدها أو حرمانها من الحقوق والواجبات المماثلة لحقوق وواجبات الرجل, أو اعتماد سياسة التمييز بين البشر على أساس عرقي أو قومي أو ديني أو مذهبي أو فكري أو سياسي أو على أساس المحسوبية والمنسوبية في الحصول على عمل أو وظيفة. كما يعتبر تقييد الإنسان في حرية العمل أو النشاط الاقتصادي أو مصادرة أملاكه المنقولة وغير المنقولة لأغراض انتقامية أو تقييد حقه في التنقل أو حرمان الفرد من المشاركة في الحياة العامة والحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية أو حرمانه من حق التنظيم والتظاهر والإضراب والاعتصام أو التعبير عن الرأي والنشر, أو ممارسة القهر والهيمنة الأبوية على أفراد العائلة ...الخ, كلها وغيرها تساهم في المس بكرامة الإنسان, وبالتالي فهي محرمة على وفق ما ورد في هذه الوثائق ذات المضمون الإنساني المتطورة مع تطور وتقدم الإنسان والحضارة البشرية.
لا شك في أن غياب العدالة الاجتماعية في توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي وسوء استخدامه وانتشار الفساد المالي والإداري كلها ظواهر تشكل خرقاً فظاً وكبيراً لحقوق الإنسان الأساسية وتنعكس عواقبها على كرامة الإنسان وبصيغ مختلفة. فالمواطن والمواطنة لهما الحق في أن تمارس الدولة, عبر النظام السياسي القائم, سياسة تنموية اقتصادية وبشرية (اجتماعية) تستند إلى رؤية واعية للمجتمع ومهمات تقدمه والتي يفترض أن تتجلى في كيفية توزيع الدخل القومي بين التراكم والاستهلاك. فحصة التراكم توضع في ميزانية التنمية وتوجه لأغراض التثمير الإنتاجي كرؤوس أموال لتنمية الاقتصاد الوطني وخاصة قطاعات الصناعة والزراعة والصناعات الصغيرة والمؤسسات الاقتصادية الإنتاجية الأخرى والبنية التحتية والتي تساهم في توفير مستلزمات زيادة الإنتاج الإجمالي وتحسين إنتاجية العمل وتشغيل العاطلين عن العمل والتي يفترض أن تساهم بدورها في تعظيم الثروة الاجتماعية وتحسين مستوى دخل الفرد في المجتمع. أما حصة الاستهلاك فتوضع في الميزانية الاعتيادية التي تستخدم لتنمية وتطوير الخدمات العامة للمجتمع كالتعليم والصحة والثقافة والبحث العلمي والنقل والطاقة والضمانات الاجتماعية والصحية و...الخ. إلا إن عملية إعادة التوزيع تعتمد على كيفية وصول الخدمات إلى جميع الناس, وخاصة الكادحين المنتجين والفقراء منهم بما يحقق العدالة وليس أن توفر للأغنياء تلك الخدمات ويحرم منها الفقراء والمنتجين للثروة الاجتماعية. فليس التوزيع الأول مهم فحسب, بل والتوزيع الثاني وصواب توظيفهما بما يحقق عدم الهدر المالي أو انسياب رؤوس الأموال إلى جيوب الفاسدين والمفسدين بما يفرط بالمال العام وبالتنمية والخدمات.
إن منظمة النزاهة الدولية تشير إلى إن الفساد المالي يساهم في التفريط بالمال العام ويتجاوز بشكل كبير على حقوق الإنسان وكرامته التي تمس من خلال سرقة الأموال التي تعود له باعتباره مواطناً في هذه الدولة أو تلك.
وفي ضوء هذه الوثائق الدولية يُمنح الإنسان الفرد والجماعات والمجتمع الحق في ممارسة كل السبل السلمية من أجل الحفاظ على حقوقه وممارستها والاحتجاج على من يحاول التجاوز عليها. فله الحق في إعلان الاحتجاج بجمع التواقيع ونشرها أو تنظيم اعتصامات في محلات عامة أو تنظيم إضرابات عن العمل أو تنظيم مظاهرات سلمية تندد وتحتج على التجاوزات الحاصلة على كل تلك الحقوق في حالة عدم استجابة الحكومة لها ومعالجتها. كما له الحق بتشكيل التنظيمات الديمقراطية ضمن ما يطلق عليه بـ "منظمات المجتمع المدني" غير الحكومية والمستقلة عن الأحزاب, إضافة إلى تنظيم الأحزاب والكتل السياسية ..الخ, والمشاركة في التجمعات والنقابات والجمعيات التي يراها مناسبة ضمن أطر العمل السلمي. وأي تجاوز على هذه الأدوات التي يمتلكها الإنسان وفق وثائق شرعة حقوق الإنسان يفترض أن تقابل بإقامة الدعوى ضد الحكومة على الصعيدين الداخلي والدولي لاستعادة الشعب أو الجماعات لحقوقها المشروعة وإيقاف التجاوزات في حالة حصولها.
والعراق قد وقع على أغلب تلك الوثائق خلال العقود الستة المنصرمة مع بعض التحفظات التي سجلها نظام الحكم البعثي الدكتاتوري ليتجاوز على حقوق المرأة أو يتجاوز تحريم التعذيب أو غير ذلك. كما يفترض أن يلتزم العراق بعد سقوط الدكتاتورية بكل تلك الوثائق ما دمنا نشكل جزءاً من هذا العالم الذي نعيش فيه والذي أصبح كقرية يعرف كل بيت ما يجري في البيوت الأخرى المجاورة ولا يمكن تجاوز دول العالم حين يتم خرق الحقوق في هذا البلد أو ذاك.
ومن يتابع أوضاع العراق يدرك واقع وجود جملة من الظاهر السلبية المتعارضة مع شرعة حقوق الإنسان بوثائقها المختلفة نشير إلى بعضها على النحو التالي:
1.حكومة تقوم على أساس المحاصصة الطائفية وتستند على الهوية الفرعية الطائفية بدلاً من هوية المواطنة التي تحترم النسيج الوطني للمجتمع العراقي.
2.تقليص متواصل للحريات العامة وخاصة الحرية الفردية وحرية منظمات المجتمع المدني من جانب أجهزة الدولة والأجهزة الأمنية ومجالس المحافظات ورفض تنظيم الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات أو الإساءة إليها وضربها في أحيان غير قليلة. كما يلاحظ التحرش بحرية الصحفيين والإعلاميين سواء بإهانتهم أو اعتقالهم أو تعريضهم للتعذيب على أيدي أجهزة الأمن.
3.وجود تمييز في التوظيف والتعيين في كافة المستويات وعلى ثلاثة أسس خاطئة هي الطائفية والقومية والحزبية, وكلها محرمة من جانب شرعة حقوق الإنسان لأنها لا تحترم مبدأ المواطنة الحرة والمتساوية والكفاءة ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب.
4.وجود فساد مالي واسع النطاق, إذ يعتبر العراق ضمن الدول التي يسود فيها الفساد ويحتل المواقع المتقدمة في ممارسته كنظام سائد عملياً. ولا توجد جدية من جانب المسؤولين في مكافحة الفساد وتشكيل محكمة لمحاكمة الفاسدين واستعادة أموال المجتمع المنهوبة.
5.وجود بطالة واسعة بين الفئات العمرية القادرة على العمل تصل إلى أكثر من 30% منها.
6.وجود فقر واسع حيث تقع نسبة قدرها 30% من إجمالي السكان تحت خط الفقر الدولي, كما أن هناك نسبة عالية مماثلة من الفقراء تقع على خط الفقر أو فوقه بقليل.
7.وجود نقص كبير وجهود محدودة لمعالجة هذه الظواهر السلبية من جانب الحكومات المتعاقبة مما يحمَّل الشعب العراقي مصاعب حياتية يومية كبيرة. ونشير إلى البعض منها مثل نقص الخدمات كالكهرباء والماء والنقل والرعاية الصحية والتعليم والأمن المختل... الخ.
من هنا يبدو لي بأن وعي السلطة السياسية والأحزاب السياسية الحاكمة وأجهزة الدولة والأجهزة الأمنية والعسكرية لم تتعرف بعد أو لم تدرك أو لم تعترف ولا تريد أن تمارس مبادئ حقوق الإنسان الواردة في الدستور العراقي أو في الوثائق الدولية, وهو ما يعقد العلاقة بين السلطة والفرد والمجتمع. ومن هنا تبرز الحاجة إلى البدء بتدريس مادة خاصة هي شرعة حقوق الإنسان في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعات والمعاهد ومراكز البحث العلمي والنقابات والجمعيات غير الحكومية وفي الوزارات والكثير من المسؤولين عن أجهزة الدولة وفي السلطات الثلاث.
إن إقرار الوثائق الخاصة بحقوق الإنسان والمصادقة عليها كلها دون استثناء من جهة, وتدريس مواد حقوق الإنسان من جهة أخرى وحدهما لا يكفيان لضمان الممارسة الفعالة لحقوق الإنسان, بل يفترض الإصرار على خوض النضال السلمي والديمقراطي من أجل الضغط على الحكومة ومجلس النواب والهيئات المسؤولة الأخرى من أجل معالجة المشكلات كافة التي يعاني منها المجتمع في علاقته مع السلطة السياسة وأجهزة الدولة والأجهزة الأمنية أو القوات الخاصة والتي تسببت في المظاهرات خلال الأسابيع المنصرمة.
إنها الطريق الوحيد لضمان علاقة إنسانية واعية ومتقدمة وحقوقية سليمة بين الفرد والمجتمع والسلطة وتأمين مستلزمات التطور المعجل للبلاد والتقدم على طريق تعزيز الدولة الوطنية الديمقراطية الاتحادية, الدولة المدنية, دولة القانون الديمقراطي والحياة الدستورية والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة السياسية وتأمين العدالة الاجتماعية واحترام كرامة الإنسان التي هي جوهر مبادئ حقوق الإنسان على الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وفي المحافظات.
Top