• Friday, 29 March 2024
logo

إشكالية العلاقة بين النخبة والسلطة في العراق

إشكالية العلاقة بين النخبة والسلطة في العراق
ترتد كثير من الإشكاليات في ثقافتنا إلى عدم الاتفاق على تعريف واحد لمصطلح ما، وعندما تختلط التعاريف، تتبدد المفاهيم، وتضطرب التصورات، ووقتئذ كل فئة تدافع عن وجهتها، وتذود عن نظرتها، وتسفه الرأي الآخر وتفنده، إلا أن الفيصل والحكم في حل هذه الإشكاليات هو التعويل على معطيات الواقع العملي المعيشي، ومن هذه المفاهيم التي أحدثت شرخا في صرح مجتمعنا مفهوم (النخبة) Elite ، فكل واحد منا يرغب أن يكون نخبويا، أعني بذلك أن يكون مقبولا في المجتمع، أو شخصا مهما له تأثير، ولكن السؤال الملحاح الذي يقذف بنفسه، من الذي يحدد ذلك؟ ومن له الحق في اتخاذ ذلك القرار؟ ومن له الشرعية المطلقة في وصف ذلك الإنسان بالنخبوي؟.
أشتق مفهوم النُّخبة Elite من اللاتينية Eligere وفي قاموس أوكسفورد Oxford Dictionary أن النُّخبة Elite: أقوى مجموعة من الناس في المجتمع ولها مكانتها المتميزة وذات إعتبار، وعليه أقول:" إن الإنسان النخبوي أو الطبقة النخبوية هي شريحة اجتماعية مصطفاة تتميز عن بقية شرائح المجتمع بمستواها الثقافي والمعرفي والفكري، ولها إمكانيات وقدرات مؤثرة في المجتمع".
لا جرم أن هذه الإشكالية قد تم حلها في البلدان المتطورة، تلك البلدان التي تطورت وتقدمت حضاريا(الناحية المادية) وثقافيا (الناحية المعنوية) فيما إذا ميزنا بين ذينك المصطلحين (الحضارة والثقافة) Culture and Civilization لذلك أقول هناك اتفاق في تعريف الإنسان النخبوي، وقد حددت هويته وماهيته، فهو معروف بمواصفات معروفة ومحددة، وهي جلية واضحة، وعندما يتطور هذا الإنسان في مجتمعه المتطور حضاريا وثقافيا، فإن ذلك لا يثير ضجة واضطرابا في صفوف المجتمع، ولا أحد سيعترض طريقه بل كل يتمنى أن يصبح مثله، لأنه أهل لذلك، ويستحق أكثر من ذي قبل، بل إن تطور الإنسان النخبوي في أي مجتمع متطور يزيد من قوة المجتمع، ويشجع أفراده في المضي قدما في اقتفاء هذا المسلك، فهذا الإنسان النخبوي يصبح قدوة حسنة لأفراد المجتمع للاقتداء والتأسي به، فهو كالنحلة أينما وقعت نفعت، ولأنه هو الذي كوّن نفسه بقوته وقدرته وطاقته وجهده ثقافةً ومعرفةً وإدارةً وسايكولوجيا، حيث قد مر بأطوار متباينة، وركب أطباقا مختلفة، فهو لم يصبح نخبويا بين عشية وضحاها، أو بقرار من الأعلى، بل هو الذي أثر في سايكولوجية المجتمع لكي يصفه أفراد المجتمع بالنخبوي، فهذا القرار اتخذه الشعب وحده، أي جاء القرار من الأسفل، وهو الشعب فهو صاحب القرار الحقيقي، وهو الذي يملك زمام الأمور في مثل هذه المواطن، وعندما يكون ذلك كذلك، فإن المجتمع سيبقى متماسكا كالقصر المشيد، لا يهتز بنيانه، فمهما اشتدت المحن والرزايا والتحديات، فإن ذلك لا يزعزع كيانه، ولا يزحزح أساسه.
أما في مجتمعاتنا المتخلفة فإن تعريف النخبوي مغلوط، لأن التعريف قد تم فرضه، ولم يتم رفعه، فالفرض من الأعلى على الأسفل، وهذا إكراه وإجبار وقسر وقهر، والرفع من الأسفل إلى الأعلى، وهذه إرادة ورغبة، وبينهما بون شاسع وفرق شاسع، وعليه فإن الإنسان النخبوي (التسلطي) هو ذلك الإنسان المجهول الذي لا يعرفه الشعب، بل فرض عليه فرضا، وقد يكون معروفا ولكن بصورة سلبية، وهذا كله يعكس سلبا على السلطة التي اختارته، ويمكن تشبيه هذه الحالة ببناء عظيم، فعندما يهتز أسفل البنيان لا أمل في أعلاه، لأن الأساس في الأسفل، فالشعب هو الأساس، وعلى السلطة أن تكون حذرة وفطنة لهذه المعادلة، فالتعويل على النخبة الاجتماعبة تعويل على الشعب نفسه، لأن الشعب هو الذي رضي بهذه النخبة، بيد أن الاعتماد على النخبة التسلطية تعويل على أساس هش مرجوج، بل مضيعة لفرصة عظيمة، لأن الشعب غير راض عن هذه النخبة التسلطية التي جاءت من الأعلى، لذا لا بد من توطيد العلاقة وتمتين الوشيجة بين النخبة الاجتماعية والسلطة، فذاك ضامن أكبر لبقاء السلطة وقوتها وتطورها وتقدمها ونجاحها، ومن هنا تبين للجيمع لماذا أصر الرئيس بارزاني على أن يكون اختيار رئيس الإقليم من قبل الشعب وليس من قبل البرلمان، وذلك لأن الشعب مصدر السلطات، وله القرار الأقوى، فالشعب كله سيشارك في اختيار رئيسه، بخلاف الإختيار في البرلمان فهو اختيار عن طريق صفقات وتوافقات وتفاهمات، ولهذا وجدنا رئيس جمهورية العراق ضعيفا لا قرار له ولا أهمية، لأنه جاء عن طريق توافقات الكتل السياسية عن طريق نوابها في مجلس النواب العراقي، ولم يأت عن طريق الشعب، بينما في الدول التي يكون اختيار الرئيس من قبل الشعب، يكون الرئيس فيها أقوى سلطة وهيبة وشعبية، كما هو الحال في امريكا وفرنسا ومصر وتركيا ودول أخرى كثيرة.
والذي يحصل في العراق مع الأسف الأسيف أن السلطة تفعل العكس في أكثر الأحايين، حيث أهملت النخبة الاجتماعية، وعولت على النخبة التسلطية، ولهذا تكثر ولا تفتأ تكثر الإضطرابات والمشاكل من هنا وهناك، ويبدأ تدني المستوي الإداري في مؤسسات الدولة، وسبب ذلك أن هذه النخبة التسلطية لم تمر بالمراحل التي مرت بها النخبة الاجتماعية، فهي تطيش وتستبد وتستغل وتتغطرس، ووقتئذ تبدأ الشعوب بالتذمر والتضجر والغيلان من سلوكيات هذه الشرذمة، والأدهى من ذلك أن هذه النخبة تبدأ بتبوأ المناصب من غير فتور ولا نفور، وسيحاول الناس لتبوأ منصب في مؤسسات الدولة اقتفاء تلك السلوكيات غير السليمة، والأخلاقيات غير المتزنة، والأساليب غير الحضارية، فيتحول المجتمع جله وقتئذ إلى فئام وأناس لا خلاق لهم من الصدق والأمانة والعفة والإخلاص والانتماء إلى الوطن والأمة، وهذا بلا ريب من أهم عوامل تفكك البنية المجتمعية في أي بلد، ولقد سألني أحد تلامذتي سؤالا، لماذا الإنسان الغربي مخلص في عمله، وفي بلادنا نجد خلاف ذلك؟ وقد أجبته بضرب مثل، لأن الأمثال تقرب المعنوي في صورة المحسوس، قلت له: في الغرب أو في أي بلد متطور، عندما يختارون شخصا لتبوأ منصب ما أيا كانت درجته، فإنهم يضعون شروطا ومواصفات، وهي شروط منطقية وعملية، فكل من توفرت فيه تلك الشروط فهو أهل لذاك، وعندما يتبوأ ذلك الشخص ذلك المنصب، فإنه يدرك في قرارة نفسه، أنه إنسان نخبوي بقرار من الأسفل، فلما اعترف به الأسفل، ليس للأعلى إلا الانصياع للأسفل أي قرار الشعب، وحينئذ يهنئه كل من دونه، ويبارك له تقدمه وتطوره وتبوأه المنصب، ويحاول كل فرد في تلك المؤسسة أن يحذو حذوه، وأن يحقق ما حققه، ووقتئذ تكون المنافسة شريفة، وتتحول المنافسة إلى عامل للتقدم والتطور في البلد، أما في العراق فإن هذه العملية تمر بمسالك غير مرضية، تسبب وقد سببت حرجا لممجتمعاتنا، حيث يأتي اختيار الشخص لمنصب ما من الأعلى دون الرجوع إلى الأسفل، حيث إن الشروط والمواصفات وضعتها السلطة وليس الشعب، وهي لا تحقق إلا من هو من الطبقة التسلطية، أي لا صلة له بالطبقة الدنيا أي الأسفل (الشعب) بل لو بقي معولا على الأسفل لبقي في مكانه الى الأبد، لأنه ليس مؤهلا لتبوأ أي منصب ولن يرتقي به الحال إلا بشرطين أولهما أن يحقق الشروط والمواصفات المنطقية والعلمية – وقد سبق ذكرها- وهذا صعب التحقيق لأنه لا يستطيع ذلك مطلقا، ولو حاول فإنه لن يصلح لذلك المنصب، أو ربما سيفشل ويخفق في عمله، أو أن يأتي القرار من الأعلى ضد رغبة الأسفل، وهذا يجلب نفعا للشخص، وكارثة للسلطة، لأنه كلما اصطدم قرار الأعلى بالأسفل، كانت الخسارة حليف الأعلى، ولو بعد حين، وبمرور الزمن ستصبح هذه السلطة ضعيفة وهشة الى أن تنهار بصورة كاملة.
لماذا فشلت الحكومات العراقية منذ 2003 أي بعد سقوط نظام البعث، لأن الحكومة شكلت من قبل الكتل السياسية وليس عن طريق لجنة تخصصية علمية، فكل كتلة تفرض شخصيات حزبية على المكلف بتشكيل الحكومة، وليس من حق الأخير أن يعترض، بل يجب أن يقبل ذلك المرشح رغما عن أنفه، ولو كان فاشلا فاسدا متورطا طائفيا قاتلا لا شهادة له، وإلا لم تنل حكومته ثقة مجلس النواب العراقي، فكم من شخصيات غير كفوءة تبوأت مناصب مهمة في الدولة، وكم من مسؤولين فاسدين تسلموا حقائب وزارية مهمة، ومجلس النواب العراقي يمنح الثقة من غير تردد ولا اعتراض ولا نقد، لأنه تم الاتفاق على تقسيم الكعكة بين الفرقاء السياسيين، والمؤسف أن الفاسدين بقوا في مناصبهم، وإقيل من يستحق التكريم.
فالنخبة التسلطية من أهم أسباب تخلف المجتمعات وتقهقرها، ولا مجمجة أن البلدان المتطورة بقدر اهتمامها بالناحية التكنولوجية والعمرانية وما شاكل ذلك، فإن اهتمامها بثقافتها لا يقل عن ذلك، بينما في مجتمعاتنا الأمر فيه خلل، حيث نلاحظ تقدما وتطورا ماديا مذهلا، إلا أن ثقافتنا تقاعست وتخلفت، وبقيت خامدة جامدة هامدة، ففي جميع البلدان المتطورة تسير الحضارة والثقافة معا، جنبا إلى جنب، وفي بلادنا اختل الميزان، فالأمر أشبة بمشية عرجاء، وهذا عيب لا يسمى مشية حقيقية، فقد تجد شخصا يملك قصرا مشيدا، وسيارة راقية فارهة، ومالا جما، وزوجة حسناء، فلا ينقصه شيء من الناحية المادية (الحضارية) إلا أن ثقافته ضحلة ضيقة، فيشعر بنقص في شخصيته فيعوض عن ذلك النقص بسلوكيات طائشة وتصرفات غريبة وتعامل فظ وخلق سيء، لهذا تجده مستبدا برأيه، مستغلا لموقعه، أنانيا شحيحا، لا يعرف عن الأمانة شيئا، ولا عن الصدق قطميرا، ولا عن حب الوطن حبة، ولا عن الحوار حرفا، ولا عن الصداقة والاخوة كلمة، فالوطن وطنه إن تحققت مصالحه، وإن لم تتحقق مصالحه شبه الوطن بالعطن، فهو يعيش لنفسه، ولا خير فيه لأهله وأمته ووطنه وملته، وقد قال النبي(ص):"خير الناس من نفع الناس" ، لذلك ليس غريبا أن تجده في بعض الأحايين لا يرتقي إلى درجة المسؤولية تجاه أمته ووطنه وتاريخه، إن نال شيئا من الأعلى أخلص له بقدر حاجته، وإن استرد منه موقع أو منصب انقلب على عقبيه، وتحول إلى وحش مفترس ضد أمته ووطنه وشعبه، فهو أشبه بمن قال الله تعالى فيهم{ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين}.
وعليه أقول على السلطة أن تتصالح مع النخبة الاجتماعية، وأن لا تعتمد النخبة التسلطية، التي أصبحت كارثة لمجتمعاتنا، ولو لم تفعل ذلك، فإن العواقب ستكون وخيمة، وكلنا يعلم أين وصل العراق بسبب هذه النخبة التسلطية التي أقصت النخبة الإجتماعية.
Top