• Saturday, 20 April 2024
logo

الإنسان ذلك الكائن المقدس

الإنسان  ذلك الكائن المقدس
لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ثم كرمه تكريما، وهذا التكريم لذات الإنسان المجردة بغض الطرف عن العقيدة أو الدين أو المذهب، وبلغ هذا التكريم مرحلة التقديس، حيث جعل الله الإنسان أقدس ما خلقه، وعدّ قتله أعظم جريمة من هدم الكعبة، ومن أمارات هذا التكريم أن جعله الله حرا في إرادته، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فلا إكراه في الدين، بل إن الإكراه جريمة بحق الإنسانية، وكل من يدخل دينا عن طريق الإكراه لا يقبل منه شرعا ولا عقلا، بل إن فقهاء الإسلام أفتوا أن إيمانه لا يصح، ففي عهد (الحاكم بأمر الله) أكره الكثيرين من المسيحيين على الدخول في الإسلام، ولكن بعد مجيء الخليفة (الظاهر) سمح لهم بالعودة إلى دينهم، لأنهم دخلوا فيه خوفا ورهبة وقسرا، ولم يدخلوا فيه طوعا ورغبة وقناعة.
وقد نزلت الأديان لهداية الإنسانية الى الطريق الصحيح، وهي تملأ فراغا في مكنون الإنسان، فلا يمكن للإنسان أن يعيش من غير دين، وإن عاش كما يدعي البعض فهو غير صحيح، لأن ما يدعيه يعدا دينا له، فاللادينية دين من لا دين له، يقول بلوتارخ مورالس Plutarch Morals :" قد نجد مدنا بلا أسوار أو بدون ملوك أو حضارة أو مسرح، ولكن لم ير الإنسان مدينة بدون أماكن للعبادة والعباد"، وقال فولتير الفرنسي:" إنه لو لم يكن يوجد إله، لوجب علينا أن نبتدعه".
لا شيء يضاهي الدين في تأثيره على الأفراد والمجتمعات، فقد يكون تأثيره سلبيا، وقد يكون إيجابيا، يكون تأثير الدين إيجابيا عندما يكون هذا الدين حرا لا دخل للإنسان فيه، من حيث التأويل والتفسير والبيان، ويكون سلبيا عندما يتدخل الإنسان في تأويل نصوصه وتفسيره وفق رأيه واجتهاداته الشخصية، وهذا ما دفع الكثير الى الإلحاد والتمرد على الدين ومعتنقيه، لأنهم شوهوا الدين وحولوه الى طقوس ومعتقدات جافة وغليظة، لا تأثير لها على النفوس في زمن التحضر والتمدن، فقد قال الفيسلوف نيتشه لأخته في مرضه:" لا تدعي قسيسا ينطق بالأباطيل والأكاذيب على قبري في وقت لا أستطيع فيه الدفاع عن نفسي، أريد أن أدفن في قبري وثنيا شريفا"، وهذا توماس هكسلي Thomas Henry Huxley صديق داروين يقول للأسقف سوابي سام Soapy Sam في المناظرة التي أقامتها جامعة أكسفورد:" إنني أفضل أن يكون جدي قردا على أن يكون أسقفا". وقد ذكر مؤرخة الغرب أنه كان في باريس وحدها خمسون ألف ملحد في القرن السابع عشر، ولعل أقسى وصف للدين هو ما أطلقه كارل ماركس بقوله:" الدين أفيون الشعوب".
ليس الخلل في أصل الدين، فالدين وحي إلهي معصوم لا شك في صدقه وأحقيته، ولكن الخلل في الذين جعلوا أنفسهم وكلاء الله في الأرض، ونصبوا أنفسهم موقعين عنه، فيفتون بغير علم، فيصبح الناس في حيرة من دينهم، وبسبب هذه التأويلات البشرية والفتاوى التقليدية الجافة أصبح الدين أديانا متعددة، فتجد لكل دين مذاهب، ولكل مذهب مدارس، ولكل مدرسة رجالاتها، ولكل رجل أتباع، والأتباع إما معتدلون وهم رحمة للمجتمع، وإما متطرفون والتطرف زحمة وفتنة، ففي خضم هذه الاختلافات المتباينة كيف يمكن للدين أن يترك أثره الروحي والوجداني في المجتمعات؟ وإذا كان دين واحد له مذاهب عدة، فإن ثمة أديانا كثيرة في العالم، وكل دين له مذاهبه المتنوعة، وكل مذهب يرى نفسه أحق من غيره فينتج عنه الشقاق والخلاف، فنجد في اليهودية مذاهب متنوعة مثل (اليهودية الإصلاحية Reform Judaism، واليهودية الأرثوذكسية (الحريديم) Orthodox Judaism واليهودية المحافظة Conservative Judaism
وفي المسيحية نجد (الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس) وفي الإسلام (نجد التيار التقليدي والتغريبي والتجديدي)، وهذه المذاهب نتيجة الخلاف في التأويلات لنصوص الدين، والذي أريد أن أصل إليه، إن جميع الأديان سواء كانت سماوية أو وضعية فيها ثلاثة مذاهب لا رابع لها، وهذه المذاهب تتشكل وفق تصورات الإنسان لطبيعة نصوص الدين، فهناك من يفهم النصوص فهما تقليديا لا يرضى بتأويلها مهما تطورت الظروف واختلفت، عرف هذا الإتجاه في الفكر الديني بالمذهب التقليدي Traditionalist Orthodox نجد هذه المدرسة التقليدية في جميع الأديان، وهناك من يحاول تأويلها وفق مستجدات الحياة، فيجرد نصوص الدين من معانيها، فيغلب جانب التشكيك في النصوص على جانب التحقيق، وهذه هي المدرسة التغريبية westernization وقد وصل الأمر ببعضهم الى التشكيك في نصوص الدين كما فعل ديفيد شتراوس David Strauss الذي ألف رسالة حول حياة السيد المسيح The Life of Jesus للتشكيك في شخصيته في كونه أسطورة تاريخية مجردة، وفي اليهودية تأسست مدرسة المنهج الوضعي التاريخي لنقد التراث الإسرائيلي، وتسمى بالمدرسة الوضعية التاريخية Positive Historical School. وفي الإسلام نجد الدكتور طه حسين وعبد الرحمن بدوي وجلال أمين، فالدكتور طه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي شكك في قصة ابراهيم واسماعيل مع ورود القصة في التوراة والقرآن الكريم.
أما الإتجاه الثالث فهو وسط بين تزمت المدرسة التقليدية وميوعة المدرسة التغريبية، وتعرف هذه المدرسة بالمدرسة التجديدية، حيث تحاول عدم التشكيك في النصوص الصحيحة، بل تلجأ الى تأويلها تأويلا منطقيا، هذه المدارس الثلاث ظاهرة طبيعية في جميع الديانات، ولكن من الملاحظ أن هذه المدارس جيمعها لم تستطع أن توقف موجة العنف والتطرف والإرهاب الفكري والديني في مجتمعاتها، بل زادت حدتها، مما جعلت المجتمعات تعاني من الحروب الدينية والمذهبية كالتي وقعت عبر التاريخ، خذ مثلا الحرب بين الكاثوليك والروتستانت التي دامت ثلاثين سنة، بدأت من سنة(1618م) وانتهت سنة(1648م) بعد أن دمرت اقتصاد ألمانيا بمعاهدة فيستغاليا، وشهدت فرنسا أيضا في النصف الثاني من القرن السادس عشر حروبا دينية مزقتها بين الهوجونت Huguenots الإصلاحيين والكاثوليك، وقد أهلك الكاثوليك من البروتستانت في مذبحة سانت بارتملي مائة ألف إنسان على أدق تعديل... وكالحرب التي أثارها الكاثوليك على البروتستانت المفرطين في طلب الإصلاح فقتل مائة وستون ألفا، وفي الإسلام رأينا أنهرا من الدماء سالت بسبب القاعدة وداعش، وانظر الى الدمار والخراب في العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان، فالمسلمون الذين قتلوا بيد الجماعات الإسلامية المتطرفة أكثر من الذين قتلوا بيد غيرهم، وهذه الجماعات الإسلامية المتشددة والمتطرفة ولدت من رحم تراث فقهي تقليدي بعد فهم سقيم لنصوص الدين، وتأويل لها بصورة انتقائية مستلة، وقد سميتهم بلصوص الدين.
إذا كانت النزعة الإنسانية Humanism التي ظهرت أولا في إيطاليا ما بين القرنين الخامس والسادس عشر الميلادي تدعو الى جعل الإنسان مقياس كل شيء، وذلك لكي تنقذ الإنسان من سطوة الكنيسة الكاثوليكية، وقد استطاعت أن تسقط هيبة الكنيسة الكاثوليكية، وجرأت المفكرين على انتقاد بعض تعاليمها، كما هو معروف من صنيع لوثر الألماني، وهذه الحقبة أي بين القرنين الخامس والسادس عشر تمثل عصر النهضة Renaissance، ففلسفة هذه النزعة الحفاظ على قدسية الإنسان، ذلك الكائن الذي أصبح ضحية الأفكار المتخلفة عبر التاريخ، وإن كانت هذه النزعة مادية لا دين فيها، إلا أن الهدف من تأسيسها الوقوف بحزم ضد الجرائم الفظيعة ضد الإنسان باسم الأديان والمذاهب والأفكار البشرية، ومن أجل الاستمرار على هذا النهج الذي ينظر الى الإنسان نظرة تقديس، لا بالمعنى الذي يتبادر الى الذهن في كونه مقدسا لا يخطيء ولا ينتقد ولا يعترض عليه أي معصوما، بل بالمعنى الذي لا يصبح ضحية الأيدلوجيات الدينية المتطرفة، وقد ظهرت مدرسة أخرى تحاول أن تجعل الدين أساسا في التعامل مع الإنسان، ولكن بصورة مختلفة عن المدارس الثلاث الآنفة الذكر، وهي المدرسة الصوفية Mysticismحيث تحاول هذه المدرسة تحويل الدين الى تجربة روحية شخصانية فردانية لإصلاح المجتمعات التي عانت كثيرا من الحروب والطغيان والبطش والاستبداد والترفه وملذات الدنيا، فهي ركزت في رسالتها على وحدة الأديان ليس في كون الأديان دينا واحدا، ولكن في كون الأديان جميعها تقود الإنسان الى عبادة الله، وركيزة هذه الرسالة الصوفية هي الحب، فالحب عند هذه المدرسة أساس بناء علاقات سلام بين الأديان وأتباعها، وهذه الركيزة الأساس لمقارعة ثقافة الكراهية التي تبث سمومها المدارس التقليدية المتطرفة، ولهذا قال عالم اللاهوت الديني السويسري هانز كونج Hans Kung ": لن يكون هناك سلام بين الأمم، ما لم يكن هناك سلام بين الأديان، ولن يكون هناك سلام بين الأديان، ما لم يكن هناك حوار بين الأديان.
" There will be no peace among the nations without peace among the religions, there will be no peace among the religions without dialogue among the religions".
فالسلام بين الأديان أساس السلام بين الأمم، والمدرسة الصوفية في جميع الأديان هي التي رفعت هذا الشعار، وهي التي نجحت في ترسيخ هذا المبدأ، ففي الفلسفة الصوفية الهندية نجد شانكارا يقول:" أعبد الله في أي معبد شئت أو أمام أي إله بغير تفريق"، وفي الإسلام نجد الحلاج يقول:"وأعلم أن اليهودية والنصرانية والإسلام، وغير ذلك من الأديان، هي ألقاب مختلفة، وأسماء متغايرة، والمقصود منها لا يتغير، ولا يختلف"، ويقول ابن عربي الأندلسي الفيلسوف الصوفي:" فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص، وتكفر ما سواه، فيفوتك خير كثير، بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه، فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها، فإن الإله تبارك وتعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد، فإنه يقول: فأينما تولوا فثم وجه الله ومن القائلين بهذه النظرية أبو سعيد أبو الخير الصوفي، صديق ابن سينا الفيلسوف وابن الفارض وعبد الكريم الكيلاني وجلال الدين الرومي حيث يقول: "مسلم أنا، ولكني نصراني وبرهمي وزرادشتي، توكلت عليك، أيها الحق الأعلى، فلا تنأ عني، لا تنأ عني، ليس لي سوى معبد واحد، مسجداً أو كنسية أو بيت أصنام"، فبدأ الصوفية الفلاسفة بنشر هذه الفلسفة وهي تتخذ من الحب منهجا، قال أبو حامد الغزالي:" جميع محاسن الدين ومكارم الأخلاق ثمرة الحب، وما لا يثمره الحب فهو اتباع الهوى وهو من رذائل الأخلاق"، ويقول جلال الدين الرومي:" هناك سبل كثيرة لتصلَ إلى الله، و أنا اخترت الحب لأصلَ إليه.
فالحب عند هذه المدرسة - أي الصوفية- بداية السلام، ولن يحل السلام في أي بقعة ما لم ينظر الى الإنسان نظرة كائن مقدس، لأنه هو الذي يصنع السلام، والسلام الحقيقي هو الذي يتحقق بين أتباع الأديان، وعندما يتحقق سيتحقق بين الأمم والشعوب.
Top