الإسلام السياسي في سراييفو

فيما يخص البوسنة والهرسك فقد كان بيجوفيتش يدرك أن إعلان دولة مسلمة في أوربا ليس سهلا، ولهذا قال الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران لبيجوفيتش سنة 1992 أثناء زيارته لسراييفو:" نحن لن نعترف بكل قرية في أوربا تصير دولة، فقال له حارس سيلاديتش الذي كان وزير خارجية البوسنة والهرسك آنذاك:" هذا صحيح لكن إذا كنت يا سيادة الرئيس تتحدث عن البوسنة والهرسك فهي أقدم من أكبر دولة أوربية، وحدودها طبيعية، وقبائلها أقدم من قبائل في أوربا"، واتهم حارس سيلاديتش الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي المصري بعرقلة انضمام البوسنة الى الأمم المتحدة، وطالب أهالي ضحايا مجرزة سربرينتسا التي راح ضحيتها ثمانية آلاف من المدنيين البوسنيين بمحاكمة بطرس غالي لأنه كان مسؤولا عما جرى، وقد فشل الرجل فشلا ذريعا في إدارة هيئة الأم المتحدة، مما دفعت إدارة بيل كلنتون الى رفض تجديد ولايته للمرة الثانية بعد استخدامها حق الفيتو، وفيما يخص الجوانب الأخرى لم يكن الجيش البوسني مجهزا لمواجهة القوات الصربية التي هي رابع قوة عسكرية في أوربا، ولا اقتصاده قويا، ولا جميع مواطني البوسنة والهرسك موافقين وخاصة الصرب والكروات، ولهذا استعان بيجوفيتش بالأفغان العرب الذين كانوا في أفغانستان يقاتلون الروس، وانضموا الى الجيش البوسني، وكذلك بالدول العربية كالسعودية وتركيا وايران، وخاصة باكستان التي أرسلت باخرة محملة بالصورايخ المضاضة للدبابات، وعاد الضبط المسلمون الذين كانوا في الجيش اليوغسلافي للدفاع عن بلدهم، وقد كانت البوسنة محاصة بين كرواتيا وصربيا، وقد زاره أسامة بن لادن لتقديم الدعم الكامل له، أسس بيجوفيتش الأكاديمية العسكرية في سراييفو، وفي سنة 1994 تم تشكيل اتحاد البوسنة والكروات لقتال الصرب، مما دفع حلف الناتو الى التدخل لوقف الحرب وحفظ السلام، وتم عقد اتقافية سلام شامل في المنطقة، وهي الاتفاقية التي عرفت باتفاقية دايتون Dayton التي عقدت في مدينة دايتون التابعة لولاية أوهايو الأمريكية وقد حضر بيجوفيتش ممثلا للبوشناق وسلوبودان مليوسوفيتش عن الصرب وتودجمان عن الكروات، ووقعوا الاتفاقية سنة 1995، وكان هذا الاتفاق انتصارا لإدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون Bill Clinton، ولم تكن هذه الاتفاقية في مصلحة البوشناق، ولكن فرضت عليهم من قبل أمريكا، ورضي بها البوشناق لوقف الحرب التي دمرت البلاد والبوشناق، لأن سلاما جائرا خير من حرب مهلكة كما كان يقول قادتهم، فخلال الحرب التي دامت ثلاث سنوات بين (1992-1995) ارتكب الصرب إبادة جماعية بحق المسلمين البوشناق، حيث قتل(200) ألف بوسني، وفي حصار سراييفو مات(10) ألف بوسني، وتم تهجير مليون ونصف، وفي سنة 1995 اقتحمت قوات صربية بقيادة الجنرال راتكو ملاديتش Ratko Mladic محمية للإمم المتحدة فيها بوسنيون، حيث قتلت(8000) من الرجال والنساء والأطفال، وهي المجزرة المعروفة ب(سربرينتسا) Srebrenica Massacre ، وقد تم القبض عليه في بلغراد سنة 2011 بعد مطاردته لستة عشر عاما، ليحكم عليه بالسجن مدى الحياة، وكذلك تم القبض على جزار البوسنة رادوفان كاراديتش Radovan Karadzic الزعيم الصربي سنة 2009، وحكمت المحكمة الدولية عليه بالسجن (40) عاما، استقلت البوسنة والهرسك ذات الأغلبية المسلمة، لكن أمريكا وأوربا وضعت للبلد نظاما سياسيا معقدا للغاية، قد لا أكون مبالغا إن قلت إن النظام السياسي للبوسنة والهرسك من أعقد أنظمة العالم، وفي النتيجة كان المستفيد الأول من الاستقلال هم الصرب ثم الكروات وأخيرا البوشناق، فقد تم تقسيم البوسنة والهرسك الى ثلاثة أقسام: الأول: اتحاد البوسنة الكرواتية الفدرالي، والثاني: جمهورية صرب البوسنة، والثالث: مقاطعة برتشكو Brcko وهي تخضع لإدارة مشتركة من قبل كلا الكيانين، وقد حصل الصرب على %49 من الأراضي، بينما البوشناق والكروات نالوا %51، وبقيت سارييفو عاصمة موحدة للجميع، وفيها ثلاث لغات رسمية(البوشناق، الكرواتية والصربية) وتم تشكيل مجلس رئاسي يضم ثلاثة مرشحين من كل عرقية(البوشناق، الكروات، الصرب)، يتناوبون على رئاسته كل ثمانية أشهر، بعد إجراء الانتخابات كل أربع سنوات، ويصبح الفائز رئيسا ثم يبدأ التناوب بين الثلاثة الفائزين من كل قومية كل ثمانية أشهر، وهذا المجلس مسؤول عن الشؤون الخارجية والدفاعية والموازنة، والأغرب في هذا النظام المعقد الشائك أنه في الانتخابات يكون لمواطني اتحاد البوسنة الكرواتية الفدرالي الحرية لاختيار مرشحه من بين البوشناق أو الكروات، بينما المواطن الصربي يصوت لمرشحه الصربي حصرا، أما مواطنو مقاطهة برتشكو فلا بد أن يحدد مرشحه قبل التصويت، والذي أراه أن هذا النظام لم يتم وضعه لكي يستقر البلد ويتطور بل وضع لكي يتجدد الصراع في أي لحظة، ولكي تبقى هذه الدولة المسلمة في تخلف وتقهقهر وفوضى، وبعد استقلال البوسنة والهرسك أصبح علي عزت بيجوفيتش رئيسا للمجلس الرئاسي(1996-1998) ثم جاء دور المرشح الصربي زيفكو راديشيتش Zivko Radisic (1998-1999) ثم الكرواتي أنته جالافيتش Ante Jelavic (1999-2000)، وهكذا يستمر التداول التناوبي بين العرقيات الثلاث، وبعد اتفاقية دايتون واستقلال البوسنة والهرسك انتقل المقاتلون الذين كانوا يساعدون الجيش البوسني ضد صربيا الى الشيشان والعراق وسوريا وكشمير بضط أمريكي، وبقي البعض منهم في البوسنة، وبسبب مواقفهم الدينية الراديكالية المتشددة لم يكنوا مرحبين في المجتمع البوشناقي المعتدل بالرغم مما قدموه لأهلها، لأنه تبين خلال استطلاع 2014 أن مسلمي البوسنة هم الأكثر ليبرالية في العالم، يتبعون المذهب الحنفي في الفقه، والمذهب الماتريدي في العقيدة، يعيشون بسلام منذ القدم مع الكروات الكاثوليك والصرب الأرثوذكس، ويريدون الاندماج مع المجتمع الأوربي مع الاحتفاظ بدينهم، ومن الذين أسهموا في هذا المشروع الحضاري أنيس كارديتش Enes Karic وفكرت كارتيتش Fikret Karcic - والأخير كان أستاذي في مرحلة الدكتوراه في ماليزيا، حيث كان أستاذا زائرا - ولهذا لم يستطع الإسلاميون المتطرفون البقاء في مجتمع كهذا، وقد خرج(300) متطرف من البوسنة ليلحقوا بالقاعدة وداعش، ومن أخطرهم بايرو ايكانوفيتش الذي لحق بداعش وأسس أكبر معسكر في شمال سوريا، ونصرت اماموفيتش القيادي في جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة، والأخير مطلوب أمريكيا، وقد درب (200) شابا بوسنيا للحاق بالقاعدة، ولهذا تجد أكثر المقاتلين الأوربيين في صفوف القاعدة وداعش من البوسنة.
يأتي الحديث الآن عن دور علي عزت بيجوفيتش الرئيس البوسني الذي يعد أبا الإسلام السياسي في البوسنة والهرسك، في سنة 1938 كان من المشاركين في تأسيس جميعة الشبان المسلمين (ملادي مسلماني)، وهي أقدم جمعية إسلامية في البلقان، ولكن بما أن تأسيس جمعيات على أساس الدين لا يسمح به في يوغسلافيا، فسجل الجمعية باسم المشيخة الإسلامية سنة 1940، في سنة 1946 تم اعتقاله مع صديقه نجيب شاكر بيه من قبل الحكومة اليوغسلافية بسبب مساعدتهما في إصدار جريدة المجاهد، وبعد خروجهما من السجن، شن الشيوعيون حملة اعتقالات ضد أعضاء الجمعية، وتم إعدام أربعة من أعضاءها سنة 1949، واعتقال الكثيرين منهم، وقد كانت هذه الجمعية في صراع مستمر مع حركة الأستاشا النازية، وهي حركة تشكلت من الشباب البلقان وخاصة الكروات الذين انضموا الى نازية أدولف هتلر عندما احتلت ألمانيا يوغسلافيا سنة 1941 وأنهت الحكم الملكي، في سنة 1953 ألغى الجنرال تيتو تراخيص مثل هذه الجمعيات، وذلك لفرض الشيوعية على الشعب اليوغسلافي من أجل توحيده، ولهذا عانت الجمعية في عهده كثيرا، لذلك حاول بيجوفيتش عن طريق رئيس جمعية العلماء الشيخ حين دوزو – تم تعيينه من قبل الحكومة للإشراف على شؤون المسلمين- أن ينشر مقالاته في مجلة(تاكفين) التي كانت تصدرها جمعية الشيخ دوزو، وسبب إلحاح بيجوفيتش أن قراء المجلة كانوا أكثر من (50) ألف، في سنة 1969 ألف بيجوفيتش كتاب البيان الإسلامي، وفي سنة 1983 حكم عليه بالسجن (14) سنة لأن الكتاب يناهض أفكار الشيوعية، ثم في سنة 1988 أطلق سراحه، وهي كانت بدايات مرحلة تصدع النظام الشيوعي في يوغسلافيا، وفي سنة 1990 انهار الاتحاد الشوفيتي ونظامه الشيوعي، مما دفع يوغسلافيا الى فتح المجال للتعددية السياسية، فشكل بيجوفيتش حزب العمل الديمقراطي Party of Democratic Actionْ ليكون الجناح السياسي لجمعية الشبان المسلمين، والعملية هذه أشبه بما حصل في السوان، حيث شكلت الحركة الإسلامية (الإخوان المسملون) جناحا سياسيا باسم المؤتمر الوطني ليكون عمر البشير رئيسا له، ووكانت هناك علاقات متينة بين بيجوفيتش وقادة السودان الإسلاميين، وقد تأثر بيجوفيتش بالإخوان المسلمين في مصر والجماعة الإسلامية للمودودي وتجربة أندنوسيا ومفكرين مثل سيد قطب والندوي وحسن البنا وغيرهم، والحقيقة أن من يقرأ مذكراته سيرى مدى انبهاره بتجربة الإخوان المصرية، حيث قال مبالغا:" لولا الإخوان المسلمون لضاعت البوسنة والهرسك"، وهذا الكلام بكل تأكيد مبالغ فيه، ومن يقرأ كتبه يرى أن الرجل يردد ما كان يردده حسن البنا في الدعوة الى إقامة دولة إسلامية، لاعتقاده أن الإسلام أيدلوجية يجب أن تكون واقعا في الحياة، وليس دينا ينحصر في حدود الفرد والعبادات فقط، وهذا يعني أن الإسلام دين ودولة كما قال حسن البنا، ومن يثني على جماعة معينة لا يعني انتماءه إليها من الناحية الفكرية والتنظيمية، ولكن بيجوفيتش كان منبهرا بتجربة الإخوان المسلمين المصرية، ولهذا كانت أفكاره الراديكالية المنقولة من كتابات الإسلاميين تصطدم بالواقع البوسني، وهذا ما دفع صديق دربه النضالي المسلم المعتدل حارس سيلايديتش Haris Siladzic الى الخروج من حزب العمل الديمقراطي بعد نهاية الحرب، وتأسيس حزب مستقل باسم لأجل البوسنة والهرسك، ولكن مع ذلك كان بيجوفيتش مفكرا بارزا وسياسيا ذكيا ومناضلا شجاعا في سبيل أمته ووطنه ودينه، عندما تدهورت صحته، زاره أردوغان في سراييفو، فأمسك بيجوفيتش يد أردوغان وقال له: هنا أرض الفاتحين، دافعوا عن البوسنة، وحافظوا عليها، هذه الأراضي أمانة في أعناقكم"، مات بيجوفيتش سنة 2003، وعندما زار أردوغان البوسنة مرة أخرى بعد وفاة بيجوفيتش، قال له بكر بيجوفيتش:" أردوغان ليس رئيس تريكا بل هو رئيسنا أيضا، إن الله أرسل أردوغان للأتراك".
بعد وفاة بيجوفيتش خلفه سليمان تيهيتش في رئاسة حزب العمل الديمقراطي، ثم خلفه بكر علي عزت بيجوفيتش وهو نجل بيجوفيتش، في سنة 2010 فاز بكر بيجوفيتش في الانتخابات ليصبح عضوا للبوشناق في المجلس الرئاسي، وفاز مرة أخرى سنة 2014، أما بخصوص جمعية الشبان المسلمين فيرأسها أدهم باسكيتش الذي خلف عمر بهمن المعروف بمانديلا البوسنة الذي بقي في السجون الشيوعية (20) عاما، وهو من أصدقاء بيجوفيتش وأسسا معا حزب العمل الديمقراطي، أصبح رئيسا لجمعية الشبان المسلمين سنة 1999، لكنه تعرض لحادث سيارة توفي إثرها سنة 2009.
يحاول المسلمون البوشناق التعايش مع الكروات الكاثوليك والصرب الأرثوذكس لأنهم من أبناء وطن واحد، أي العودة الى الحياة الطبيعية قبل غزو العثمانيين، وقبل ظهور الإسلام السياسي الذي حاول أسلمة الوطن دون اعتبار للمكونات الأخرى، ولهذا لا يمكن للمتطرفين أن يعيشوا في بيئة مسالمة معتدلة ليبرالية مثل البوسنة والهرسك، ولكن أتصور أن هذا النظام السياسي الذي فرضته اتفاقية دايتون سيسبب لهم مشاكل معقدة في المستقبل، وخاصة أن البوشناق ينظرون إلي الى معاهدة دايتون نظرة إهانة لهم، وبعض قادة الإسلام السياسي يحاولون استغلال هذه النقطة في تحقيق مآربهم السياسية.