• Saturday, 20 April 2024
logo

هل كوردستان بحاجة الى إسلام سياسي؟

هل كوردستان بحاجة الى إسلام سياسي؟
لا يتصورن أحد وخاصة أتباع الإسلام السياسي أنني أكتب هذه الأسطر لكي أطعن في شخصية إسلامية أو أنتقص من قدر أحد من إسلامي كوردستان، فأنا أكن الاحترام لهم، لأنهم أهلنا وإخوتنا يعيشون معنا في وطن واحد، وبعضهم ناضل في سبيل كوردستان ضد الظلم والطغيان في زمن البعث، فهم أحرار فيما يؤمنون ويعتقدون من منهج أو طريقة في مسيرتهم السياسية، فأنا أنقد منهجهم وفكرهم ومشروعهم وطريقتهم وهذا بكل تأكيد لا يعني بغضهم وعدواتهم وكراهيتهم، فنقد المنهج أو الفكر أو المشروع أيا كان ظاهرة صحية وثقافة راقية سامقة، ومشروع حضاري لبناء مجتمع متكامل ومتوازن ومرموق.
ثمة فرق بين ينقد الإسلاميين وهو حاقد عليهم ويبغضهم، وبين من ينقدهم وهو مشفق عليهم يريد إصلاحهم وبيان جادة الصواب لهم، فالنقد الأول نقد مرفوض في الأوساط العلمية والأكاديمية وقد سميته بالنقد الرجيم، والنقد الثاني نقد علمي موضوعي يهدف الى الإصلاح والبناء، وقد سميته بالنقد الرحيم، وبين النقدين كما بين السماء والأرض، فالنقد الرجيم هدفه الشهرة وحب الظهور وتحقيق غايات شخصية ضحلة، ويتصف أصحابه بقلة الخبرة والتجربة ويتسم نقدهم بالسطحية وعدم الدقة، والتركيز على الطعن في الشخصيات دون مناقشة الأفكار، وقديما قال ابن العربي:" وكم قصم الظهور حب الظهور"، ولهذا لا نجد آذانا صاغية ولا قلوبا واعية لهذا النقد، بل نجد ردود أفعال قوية في رفضه مطلقا، بخلاف النقد الرحيم الذي يتصف بالتحليل الدقيق والعمق في التفكير والمنطق ومناقشة الأفكار بصورة هادئة هادفة وعلمية، ولا ضيق المجال لذكرت أمثلة عديدة على ما نحن بصدده، ولا يعني أن النقد الرحيم سيكون مقبولا لدى الإسلاميين، بل هو مرفوض ولكن ذلك أفضل من النقد الرجيم، وذلك لأنه أحيانا يدفع أولي الألباب منهم الى مراجعة أنفسهم، وخاصة من الذين يرومون الوصول الى الحقيقة، وقد حصل ذلك وما أكثر الأمثلة على ذلك.
لندخل في صلب الموضوع، هل كوردستان حقا بحاجة الى تجربة الإسلام السياسي؟ للإجابة على هذا السؤال نذكر النقاط التالية.
أولا) لسنا دولة مستقلة، والدول تستقل عن طريق الوعي الوطني، لأنه المعيار الوحيد الذي يجمع ولا يفرق، فهو يجمع بين المواطنين جميعا بغض الطرف عن هوياتهم الدينية والقومية والمذهبية، فالوطن للجميع والجميع للوطن، ويبقى الانتماء القومي والديني والمذهبي لفئة معينة، ولا إنتماء من هذه الإنتماءات صالح لكي يجمع المواطنين جميعا في وطن واحد، فلو أسسنا دولة على أسس قومية أين سيكون مصير القوميات الأخرى كما هو الحال في تركيا وسوريا، أو على أسس دينية مذهبية كما هو الحال في ايران، فهي جمهورية إسلامية من حيث الدين، شيعية من حيث المذهب، فأين مصير الأديان الأخرى والمذاهب الأخرى، فالإسلام السياسي في حقيقته إنتماء ديني مذهبي أيدلوجي، فلا يمكن أن يصلح لكي يكون جامعا لجميع المواطنين في وطن واحد، فهو إنتماء ديني (إسلامي) يقصي الأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية والإيزيدية، وإنتماء طائفي (سني) يقصي المذاهب الأخرى كالطائفة الشيعية، وأيدلوجي مذهبي قد يكون (شافعيا كما في كوردستان أو حنفيا كما في باكستان أو حنبليا كما في السعودية أو مالكيا كما في المغرب العربي) لذا فهو يقصي المذاهب الأخرى، ليعلن المذهب المعين هو المعيار الأساس له، وعليه لا يصلح مشروع الإسلام السياسي لبناء الدولة ولا للإستقلال، لأنه كما قلت مشروع ضيق محدود ليس جامعا ولا شموليا كما هو الحال فيما يخص المشروع الوطني.
ثانيا) الدين أي دين أعظم شأنا من أن يكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية وحزبية، فالدين وحي إلهي معصوم جاء لهداية الناس الى الطريق الصحيح، ولم يأت الدين لكي يستغله البعض لمآرب شخصية حزبية وسياسية، وقد فقد الدين تأثيره الروحي في المجتمعات، وكاد يفقد قدسيته بعد أن أقحمه الإسلاميون في دهاليز السياسة، فعندما يكون الدين حرا من استغلال الساسة وتأويلاتهم المجحفة وتفسيراتهم المتطرفة نجد تأثيره قويا وعظيما، لأنه وقتئذ يكون دين المجتمع وليس دين الساسة، فالدين ليس نخبويا بل هو شعبي، فالساسة حاولوا جعله نخبويا حتى يحققوا لأنفسهم ما يريدون، بمعنى آخر جعلوا أنفسهم وكلاء الله، والموقعين عنه في تفسيره وشرحه لأتباعهم حتى يكون الأتباع منقادين لهم، لا يقومون بحركة دون موافقتهم، ولهذا سيطروا على الإفتاء والنشر والمواقع والكتب والمجلات والجرائد والقنوات وذلك حتى لا يتحول الدين الى دين شعبوي بل لا بد من بقاءه نخبويا يحمل طابعا أيدلوجيا معينا صنعوه وفق سياستهم.
ثالثا) في البلدان التي ظهر فيها الإسلام السياسي، كان ظهوره بمثابة حركة اجتماعية إصلاحية تربوية ضد الفساد والطغيان والشيوعية والالحاد كما في مصر والعراق وتركيا وايران ودول أخرى، ولكن المشكل أنه بمرور الزمن تحول التدين الاجتماعي الى حركة سياسية باسم الدين، ففي البداية كثر المتدينون، وهي ظاهرة طبيعية، ولكن عندما يرى القادة الذين يرشدونهم ويعلمونهم كثرة هؤلاء المتديين المطيعين يحولونهم من التدين الاجتماعي الى التدين السياسي، فهنا تكمن المشكلة الحقيقية التاريخية، وهي وأعني هذه المحاولة سببت العنف والتطرف والمواجهة بينهم وبين الحكومات، وقد حصل ذلك في مصر والجزائر وكوردستان، ولكن في مصر كانت البداية، حتى انتشرت في بقايا العالم الإسلامي، ويعلم المتابع لمقالاتي تاريخ تجربة الإسلام السياسي في الدول التي كتبت عنها، كيف جلب الإسلام السياسي لتلك البلدان من كوارث وعنف وتطرف وسفك دماء.
فيما يخص كوردستان كان الأمر مختلفا تماما، فلم تمر الحياة الدينية كما مرت في مصر ودول أخرى، بل نقلت تجربة الإسلام السياسي الى كوردستان كما تنقل الأطعمة المعلبة، فواقع كوردستان ليس بحاجة الى إسلام سياسي، لأن بيئة كوردستان بيئة متدينة عبر التاريخ، فما أكثر علماءنا الذين أسهموا في إثراء الثقافة الإسلامية والمكتبة الإسلامية، ولهذا اصطدمت تجربة الإسلام السياسي بالبيئة الكوردستانية ولم تهضمها بل رفضتها رفضا، ولهذا تشعبت تجربة الإسلام ومرت بأطوار مختلفة لعلها تستطيع تبيئة نفسها ولكن دون جدوى، فبيئة كوردستان بيئة حضارية ثرية بتراثها وثقافتها وهي ليست بحاجة الى تجارب فاشلة تنقل من الخارج الى داخل كوردستان، ولهذا ستموت هذه التجربة ولن يكتب لها النجاح، ولكن ذلك يتطلب وقتا، لأن كوردستان تعاني من قلة المفكرين وقلة المؤسسات الفكرية الرصينة التي تعالج مثل هذه القضايا الخطيرة المصيرية.
رابعا) لقد حاول بعض قادة الإسلام السياسي في كوردستان حذف كلمة (إسلامي) في نهاية أسماء أحزابهم، كما هو الحال في تركيا، ولكن فشلت محاولتهم وتم رفض المقترح، لأنه وقتئذ كيف يفرق المواطن المتدين بين الأحزاب الإسلامية والأحزاب العلمانية، ثم كيف يمكن للأحزاب الإسلامية المنتشرة في العالم الإسلامي أن تعرف أن في كوردستان أيضا أحزاب إسلامية إذا تم حذف هذه الضميمة(الإسلامي) فالإسلاميون في كوردستان بحاجة الى التنسيق معها وبناء علاقات مهمة معها، وكذلك طلب دعمها إن أمكن، وينطبق على سلوك هؤلاء ما قاله الفيسلوف المسلم ابن رشد الأندلسي حيث قال:" إذا أردت أن تتحكم في جاهل فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني"، ولقد حاورت أحد قادتهم وقلت له: إن استعمالكم لهذا المصطلح (الإسلامي) خطأ علمي، وبينت له المعنى الدقيق له، ولكن دون جدوى، وكرر ما قاله المعارضون لحذفه، ولقد بينت في مقال لي خاص نشر في مجلة كولان حول تاريخ هذا المصطلح وحقيقة معناه، فلا داعي لإعادته.
خامسا) لقد شوه الإسلام السياسي الإسلام تشويها، فمنهم من جعله دين حرب وإرهاب كالجماعات التكفيرية، مما جعل الناس في شك من دينهم، ومما زاد الطين بلة والراء علة وجود أحزاب إسلامية كثيرة في بلد مسلم واحد، ففي كوردستان كم من الأحزاب تشكلت ثم اختفت ثم ظهرت ثم انشقت ثم تغيرت، ولو كانوا صادقين في دعواهم لاتفقوا ولتوحدوا، ولقد قال الله تعالى( واعتصموا بحبل الله جميعا) ولكن يبدو أن هؤلاء متمسكون بحبلهم وليس بحبل الله الذي لا يعرف الفرقة والتناحر والتباغض والتخاصم والتناقض والخلافات، قال مالك بن أنس للقعنبي :" مهما تلاعبت بشيء فلا تلعب بدينك" فاستغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية عين التلاعب بدين الله، ولقد حاولوا توحيد كلمتهم، لكنهم لم يستطيعوا لأنه غايتهم السياسة وليس خدمة الدين، وحتى في انتخابات كوردستان النيابية لم يستطع الإسلاميون الدخول في الانتخابات في قائمة واحدة، وهذا أكبر دليل أن الإسلام السياسي مشروع أيدولوجي لا يصلح لبناء دولة وطنية تخدم الجميع.
سادسا) ينبغي تشريع قانون في برلمان كوردستان لمنع تأسيس أي حزب على أساس ديني أو مذهبي أو قومي، وذلك حفاظا على وحدة المجتمع ورص صفوفه، ومثل هذا القانون أكبر ضامن لحماية الدين من استغلاله وتشويهه من قبل بعض الساسة، وفي الوقت نفسه حماية للمجتمع من التصنيفات الدينية والمذهبية التي تهدد السلم المجتمعي، ثم كيف يمكن تأسيس أحزاب إسلامية في بلد يشكل المسلمون الأغلبية المطلقة؟ ما الهدف وما المغزى من هذا الأمر؟ هل تريدون إدخال المسلمين في الإسلام أم تريدون توريط المسلمين في مشروع ديني طائفي وأيدلوجي؟. ولعل سائلا يسأل أليس في اوربا أحزاب سياسية مسيحية؟ هذا صحيح ولكن الفرق بينها وبين الأحزاب الإسلامية، أن الأحزاب المسيحية ديمقراطية تريد بناء دولة وطنية ديمقراطية مدنية وليس على أسس دينية مذهبية كما هو الحال للأحزاب الإسلامية.
سابعا) لماذ لا يتخلى الإسلاميون في كوردستان عن مشروعهم الأيدلوجي الذي أثبت فشله في العالم الإسلامي كله، دلوني على تجربة إسلامية ناجحة في بلد ما، فقد فشلت في مصر والعراق والجزائر وتونس وأفغانستان وغيرها من البلدان، وإذا قيل لنا فماذا عن تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا؟ فأقول هي ليست تجربة إسلامية إطلاقا، بل هي تجربة علمانية ولكن بصيغة هادئة، وقد سميتها بالعلمانية المؤمنة، وهكذا الحال بالنسبة الى ماليزيا وأندنوسيا، وحتى في تونس لم يستطع حزب النهضة الإسلامية (فرع الإخوان المسلمين) بقيادة راشد الغنوشي تطبيق التجربة الإسلامية، ولهذا قال" إن العلمانية ليست ضد الدين".
أظن أن الوقت قد حان لإسلامي كوردستان لكي يراجعوا أنفسهم لكي يتخلوا عن مشروعهم الأيدلوجي، فهو لا يخدم الدين ولا الدنيا، بل بالعكس فهو يعد مشروعا يهدد الدولة الوطنية والأسس الديمقراطية ومعالم المدنية، وليحاولوا تأسيس أحزاب وطنية لا دينية، وحينئذ ما الضير أن يكون جميع الأعضاء متدينين، فإن كانوا حقا يريدون خدمة كوردستان وتطويرها وتنميتها، وإن كانوا يريدون تحقيق مصالهم الحزبية والسياسية فإنهم لن يتخلوا عن مشروعهم، لأن ذلك يعد انتحارا سياسيا واجتماعيا، ولقد تخلى كثير من قادة الإسلام السياسي ومفكروه عن هذا المشروع الأيدلوجي، وهم الآن إما مفكرون أحرار، وإما انضموا الى أحزاب وطنية مدنية ديمقراطية، ولولا ضيق المجال لذكرت قائمة طويلة بأسماءهم.
Top