• Thursday, 02 May 2024
logo

العراق.. الوطن الذي لا يموت

العراق.. الوطن الذي لا يموت

معد فياض

 

علمونا في المدارس الابتدائية، أن تعريف الوطن هو بقعة الأرض التي نولد فيها ونعيش عليها. مع مرور السنوات وعبر التجارب الحياتية الصعبة التي عشناها، فهمت أن الوطن هو البذرة التي تُزرع بداخلنا وتنمو وتكبر وتصير شجرة مثمرة دائمة الخضرة ولن تموت. تلك الشجرة التي تتشابك أغصانها مع شرايننا وأضلعنا وحزمة شعيرات أعصابنا فنحملها بداخلنا أينما رحلنا ومهما كنا.

نسافر بعيداً، نختار مدناً نقيم فيها، سواء بإرادتنا أو رغماً عنا، نحمل أوراقاً ثبوتية لدول وصلناها مجبرين أو طائعين، وتصبح لنا، رسمياً، أوطان أخرى، أوطان منحتنا الامان والاستقرار فتنمو هذه الأوطان مثل ورود برية حول الشجرة العملاقة المتجذرة فينا، الشجرة الوطن الأم، دققوا معي في هذا التعبير المتداول دون أن نتعمق في تفاصيله يوماً "الوطن الأم"، لم يقولوا مثلاً الوطن الأب، ذلك لأن الأم هي من تحبل بنا وتمر بحالات المخاض لتلدنا من روحها لنصبح أبناءها، والأم هي شجرة دائمة الخضرة أيضاً، شجرة لن تموت حتى إذا رحلت عن هذه الدنيا، ونحن ثمار هذه الشجرة الأم. هكذا هو الوطن، وهذا واحد من أكثر التعريفات التي تصلح له عمقاً ووضوحاً، هذا التعريف الذي لا يُعلم، لا نتدرب عليه، لا ندرسه في كتب الجغرافيا أو التاريخ، بل ان هذا الدرس البليغ نتعلمه من الحياة، عبر التجارب، عبر الحروب والتضحيات والمنافي، وهذه هي الخريطة التي تقودنا خطوطها المتشابكة، دائماً، الى المعنى الحقيقي للوطن.

شجرة الوطن، العراق، التي تعيش فينا، أغصانها متعددة، عربية وكوردية وتركمانية ومن مختلف الأديان والطوائف والمذاهب، أغصان ترتبط بقوة بالشجرة الأم، وثمار كل هذه الأغصان تغذي الوطن وتقويه وتمنحه قدرة البقاء والخلود.

لقد توالت الأحداث التاريخية لقتل هذه الشجرة، لإلغاء هذه البقعة المنيرة التي تسمى بلاد ما بين النهرين من خارطة الوجود، منذ الهجمات المتكررة على بابل التي كانت مدينة الدنيا ومملكة العالم، لكن بابل كانت تقوم من جديد وتُبعث كطائر العنقاء من رماد الحرائق، كما بُعثت بغداد بعد هجمات المغول والفرس والتُرك، وبقيت شجرتها خضراء ترتوي من دجلة الخير التي تغنى بها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري:

"حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني
يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البستاتينِ
حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذُ به
لوذَ الحمائمِ بين الماءِ والطين"

وطن ينهض قوياً معافى بعد كل نكسة لن يموت، بل عصي على الموت، قوياً بفضل أهله المحبين له، قوياً لأنه شجرة في أرواح العراقيين بمختلف قومياتهم وأديانهم، فليس للعربي الحق في أن يقول أنا العراقي فقط، بل ان الكورد يعيشون في العراق منذ أكثر من خمسة آلاف عام، أي قبل وصول العرب بأكثر من ثلاثة آلاف عام، ولهم كل الحق ان يفتخروا بعراقيتهم وبعراقهم حتى وإن مارسوا حقهم الشرعي في تقرير مصيرهم فستبقى الجذور مشتركة والأغصان متشابكة.

ما يمر به العراق اليوم كابوس عابر سينتهي ليعود الوطن معافى بفضل أهله البناة، المبدعين، المدافعين عن أول كلمة خطت في سومر. ولا اجد أروع وصف لحب شاعر لوطنه من بدر شاكر السياب في قصيدته "غريب على الخليج"، عندما يهتف ملء روحه:

"الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام
- حتى الظلام - هناك أجمل فهو يحتضن العراق".

متسائلاً، السياب: "إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون!
أيخون إنسان بلادهْ؟"

الوطن الذي يتحول إلى شجرة دائمة الخضرة في أرواح أهله لا يموت ما دام العراقيون أحياء، فهناك غابات من أشجار قوية وشامخة تقاوم الجفاف، تمتد جذورها عميقة في نفوس المواطنين الذين يؤمنون بالوطن وبقائه.

 

 

روداو

Top