• Thursday, 28 March 2024
logo

عن حقيقة الواقع... وواقع الحقيقة!

عن حقيقة الواقع... وواقع الحقيقة!

ليس بعد العين أين... أليس كذلك؟

حين تفتح عينيك ماذا ترى؟

ترى أرضاً وثمراً... ترى بحراً وسماءً...

ترى مدناً قاسية تفترس بشراً أعزل وتلفظه في شوارعها كسيراً معوزاً ذليلاً...

ترى طبيعة متناغمة... ترى نماء وبهجة... ترى دماراً وحروباً وسفكاً للدماء...

ترى حواضر أعزها العِلم... وأخرى أذلتها الجهالة وأودى بها الحمق...؟!

وحين تغمض عينيك ماذا ترى...؟ ترى رمادية لا تنتهي...؟

هل هذا واقع ما ترى... أم حقيقة ما ترى...؟!

أم تراه أثراً ما قد يكون واقعاً - أو غير واقع - على حواسك وإدراكك، وذاك جل تفاعل حسك وإدراكك مع ما تَسِمه أنت واقعاً حولك، وتجترئ أحياناً فتَسِمه حقيقة ما حولك...!

هل هذا هو ظاهر الوجود... أم واقع الوجود... أم حقيقة الوجود...؟!

أم ما قُدِّرَ لك وقَدِرَت على الإلمام به حواسك في شأن الوجود والموجود فيه...؟

وللمقاربة... تفتح عينيك فترى نخلة باسقة على بُعد عدة أمتار منك... وتصف ما تراه أو تؤول هذه الرؤية الانطباعية بأن هناك تلك النخلة بوصفها على بُعد تلك الأمتار... والآن تغلق عينيك فلا ترى إلا الرمادية... فهل أنت موقن الآن بأنه ما زالت هناك ذات النخلة بوصفها على بُعدِ ذات الأمتار...؟!!

بمعنى آخر... هل أنت موقن بأن انطباعك كما وصفته هو حال الواقع الموجود ناهينا بحقيقته... والحقيقة مرتبة أخرى؟

لأنه، ووفقاً لنظريات ميكانيكا الكم، حقيقة وجود ذلك الموجود (النخلة) مرهون بأن تلاحظه... فالملاحظة والقياس هما الموجد لمادية ما نراه... وفي ذلك سرد آخر ومبحث آخر.

عَودٌ على بدء... بعبارة أبسط وأدق: ألم نكن مخطئين في سابق حينما قطعنا بأن انطباعاتنا عن ظواهر الكون حولنا هي حال واقعها بل حقيقتها...؟

ألم نقطع في سابق بأن الأرض مستوية ممتدة وليست منحنية مدحية...؟! حتى أثبت فيثاغورث خطأ تأويل انطباعاتنا عما رأيناه...؟

ألم نقطع في سابق بأن الأرض مركز الكون الثابت وكل ما حولها، من أجرام والشمس ذاتها، يدور حولها حتى أثبت غاليليو وكوبرنيكوس خطأ تأويل رؤيتنا للوجود هكذا؟

بل ذهب غاليليو إلى أبعد من ذلك، حينما قال إنه يظن أن طعم ورائحة ولون الموجودات حولنا معانٍ ومفاهيم مختزنة رمزاً في إدراك الإنسان، وعلى نحو مغاير في إدراك المخلوقات الحية الأخرى، وإن في ظنه كل مفهوم أو حقيقة لمحسوس؛ طعم أو لون أو رائحة، يفنى بالضرورة إذا فنِيَت تلك المخلوقات. وهو تفسير أقرب لميكانيكا الكم، إذا شئنا، بأن فعل الإدراك الإنساني هو مُنشِئ مادية الوجود.

هل يمكن أن يكون غاليليو محقاً... وإلى هذا الحد نكون مخطئين في تأويل الوجود...؟!

منذ أواسط القرن التاسع عشر، وتحديداً في عام 1868، كتب توماس هكسلي، عالم الأحياء والأنثروبولوجيا الأشهر، عن أن عمل العقل وتجربة الإدراك للعالم حولنا مرتبطان بيولوجياً على نحو ما... ولكن لم يملك لذلك تفسيراً.

والآن، وبعد قرابة القرنين من الفتوحات العلمية، منذ داروين وهكسلي، ما زالت العلاقة بين عمل العقل وتجربة الإدراك للواقع مقضياً عليها بالغموض والجهالة التامة بكنهها.

يقال إن ثلث العقل مجيَّش لإتمام عملية الإبصار... وإن مليارات وبالأحرى تريليونات الخلايا والعقد العصبية تعتمل وتتفاعل من أجل إتمام عملية الإبصار فور أن نفتح أعيننا على العالم.

ولكن هل عملية الإبصار هي التقاط لظاهر الموجودات وانعكاساتها على عدسة العين، كحال كاميرا التصوير الفوتوغرافي؟

وإن بدأت عملية الإبصار هكذا (بمائة وثلاثين مليون خلية بصرية في قاع العين قادرة على تكوين صورة انعكاس الموجودات أمامها) فهل عمل العين وعدستها هو كنه الإبصار؟

عمل العين وعدستها ليس هو الإبصار، وعمل خلاياها البصرية ليس هو مبتداها ومنتهاها.

إن عمل العقل في عملية الإبصار هو بناء واقع إدراكي يؤول ما التقطته العين... لتكتمل تجربة الإدراك البصري، وندعي حينها، من خلال هذا التأويل، رأينا القاطع فيما نزعم أنه الواقع الموجود حولنا...!

وللمقاربة... دعني أسألك: حين تطل على شاشة حاسوبك، وترى الملفات بأشكالها، فترى ملفاً يختزن كتباً وصوراً وأغاني وأفلاماً؛ ما تراه على شاشة الحاسوب هو أيقونة زرقاء لها شكل الملف، وما تراه من الكتاب هو أيقونة صغيرة تسفر عن صفحات الكتاب وتفصيلاته، كلماته وصوره، وما تراه من الأغنية أيقونة عليها علامة السلم الموسيقى أو وجه الفنان، وكذلك الملف المرئي.

هذا ظاهر ما تراه واقعاً على شاشة حاسوبك... فما حقيقة ما خلف ذلك الواقع المُرَمَّز...؟

هل ما خلف رمزية أيقونة الملف في حقيقته ملف مادي بذات الشكل وذات اللون؟ بالقطع لا.

هل ما خلف رمزية الكتاب والأغنية والفيلم كتاب مادي أو أسطوانة مدمجة تحمل الأغنية، أو شريط سينمائي به محتوى الفيلم...؟ قولاً واحداً: لا.

إذن واقع ما تراه عينك على شاشة الحاسوب غير واقع ما يتلمسه إدراكك وحواسك من ذاك الواقع الأول.

فبعد ظاهر «الواقع المُرَمَّز» على شاشة الحاسوب... يأتي «واقع آخر أعمق» به محتوى الكتاب وصوت الأغنية ومشاهد الفيلم.

ولكن ما وراء الواقع الأعمق من حقيقة ذاك الكتاب وتلك الأغنية وهاك الفيلم... حقيقة أخرى لا تمتّ لرمزية الواقع الظاهر المشاهَد بشيء، ولا تمت لما تستقيه الحواس من الواقع الأعمق بشيء.

فالكتاب المختزَن في ذاكرة حاسوبك كالأغنية المختزنة كالصورة المختزنة كالفيلم المختزَن... كلها ومضات أثيرية من أرقام هي الواحد أو الصفر (بترتيب ما) تنتهي مرة إلى كونه كتاباً أو أغنية أو وثائقياً يختزن تاريخاً...!

إذن شاشة الحاسوب هي «نافذتك» على عالم متكامل من الموجودات اللانهائية...

قد تطل منها على وثائقيات تحكي التاريخ كله... وقد تقرأ فيها كل ما كُتب من كتب... وقد تسمع من خلالها كل ما انتهت إليه العبقرية الإنسانية في الموسيقى؛ من بيتهوفن إلى أرام خاتشوتوريان إلى سيد درويش.

ولولا تلك النافذة التي كانت الوسيط المترجم لكل الأثير المختزن في ذاكرة الحاسوب... لما قدرت حواسك على تلقي أي من معانٍ للحياة وكنه للموجودات.

تحدثنا في مقال سابق عن أثيرية الوجود... وعن كون كل موجود ليس إلا أثيراً موجياً في حقيقة تكوينه... مهما كان تجليه المادي... فالماء والنار موجودان من أثير... وأديم الأرض وماء البحار ومخلوقات الكون... هي واقع مادي موجود كنه حقيقته أثير موجي يراوح بين العدم والوجود في كل آن...!

ولكن ما نحن بصدده اليوم هو ما انتهى إليه هذا التجلي المادي... في حيز التفاعل مع حواس البصر والتلقي لدينا... ما حقيقة ما تتلقفه تلك الحواس... التي نقطع بأنها رؤيتنا لواقع الموجود حولنا ناهينا بقطعنا بأننا ولجنا إلى حقيقته بالرؤيا.

إذن ما تراه حولك على صفحة الكون من أدق المخلوقات إلى أعظم الأجرام... من أديم أرض تقف عليها ومياه تجري حولك... من أقرانك من البشر؛ مَن تحب منهم ومَن تكره... ومِن طير ونبات وحيوان... تذلل بعضها وتفزع من بعضها... هو «نافذة الطبيعة» أو بالأحرى شاشتها، التي كل ما عليها من موجودات أيقونة مُرَمَّزَة لواقع ما، خلفه حقيقة ما...!

ترجمة لواقع مُرَمَّز لموجودات ليس واقعها كرمزها... وليست حقيقتها كواقع ما تَمسّه حواسك.

والحقيقة الأهم أن نافذة الطبيعة والكون حولنا هي نافذة تُخفي - واقع الموجودات ناهينا من حقيقة الموجودات - أكثر منها تظهر... وأن ما تظهره منها هو الشفرة المُرَمَّزَة التي بها نستطيع أن يتفاعل إدراكنا من أجل البقاء والإعمار والاستخلاف الإنساني في الكون، الذي لو تجلى واقعه المجرد أو تجلت حقيقته لعجز إدراكنا وقدراتنا وحواسنا عن القيام بأدوارها المنوطة بها.

وهذا يدفعنا إلى تأمل قول الحق تعالى: «وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا» (الإسراء: 36).

وهي الآية التي بها جُل الترقي من فعل الحواس إلى مناط الإدراك وما يسفر عنه من اختيار حر منشؤه الإدراك، وحرية قرار فيها كنه القدرة التي مُيِّزَ بها الإنسان وصارت مناط تكليفه.

السمعُ فيها ليس هو الأذن، بل بناء واقع إدراكي من مدخل تمييز الأصوات، والبصر فيها ليس فقط نتاج عمل العين، بل تمييز المرئيات... والفؤاد فيها هو مجمل الإدراك المشخَّص بالحواس... هو المادة الخام للتفكير، التي يبدأ العقل فيها بالتفكير في شأن الوجود والموجود...

والفكر - في أصله هو - فك الشيء وتحليله وإعادة الكرة فكاً وتحليلاً...!

وكما أسلفنا، فما الإدراك في شأن قراءة الواقع إلا بناؤه - وإعادة بنائه - تأويلاً حتى يتسنى لنا التفاعل معه... وعمل القلب هو تقليب الأمور وفرزها وفهم ذاك البناء الإدراكي حتى يتسنى للعقل دوره في اتخاذ القرار.

إذن فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور... حقاً

وإذن فإن هناك بعد العين أين... يقيناً

فَكِّرُوا تَصِحُّوا...!

  • كاتب ومفكر مصري

 

الشرق الاوسط

Top