• Friday, 29 March 2024
logo

الخطاب المؤدلج

الخطاب المؤدلج

طارق كاريزي

أحيانا تنتابني الغيرة العلمية أو الحرفية، وذلك عندما أقرأ مقالا لصحافي غربي. الحرفية والدقة العلمية والتزام الموضوعية في مقالات هؤلاء، والكلام هنا هو من باب العموم، يمنح الصحافة الغربية الثقل والتأثير والواقعية في الطرح المؤثر في الرأي العام ومجريات الأحداث. وكل ذلك معايير تبلورت بعد مخاض طويل للصحافة الغربية وروادها وقنواتها، وأسهمت المؤسسات الأكاديمية والخبرة التراكمية لمئات السنين من العمل الصحفي في رفع سوية المادة الصحافية لدى الصحافيين الغربيين بشكل عام. فيما الصورة لدينا في الشرق الأوسط مغايرة، ان لم تكن معاكسة.

اتصل بي أحد الزملاء الكترونيا وطلب مني تزويده بخلاصة مركزة عن الصحافي الفلاني من أبناء مدينتي. وبحسب زميلي القدير، فأن هذه الخلاصة سيبعثها زملينا المتصل هذا الى زميل لنا في العاصمة بغداد، والأخير ينوي اتمام مشروع حول الصحافيين العراقيين. طلب ربما يبدو طبيعيا واعتياديا وفق مقاسات الزمالة والصداقة. أنا من جهتي أحسست بحرج كبير، ومرد حرجي هو اعتماد طريقة السندويجة في عمل توثيقي حساس ذو شؤون وشجون شتى. ومن ثم مبرر ترددي وامتناعي عن تلبية هذا الطلب غير الاعتيادي من وجهة نظري، نابع من احساسي بالمسؤولية العالية ازاء سيادة حرفة الصحافة التي أجد مقامي فيها في منزلة متواضعة، ان لم يكن في هامشها.

قلت لزميلي في المهنة، وأقولها هنا من باب التوضيح، نشر أول مقال لي عام 1984 في العدد 21 من مجلة (كاروان) وكان المقال عبارة عن متابعة نقدية. ولم انقطع عن النشر طوال 39 عاما الماضية، بل وأكثر من ذلك انني اعمل وامارس حرفة الصحافة بشكل يومي منذ ثلاثة عقود. وتوليت عناوين صحافية مختلفة من مراسل وصولا الى رئيس التحرير في قرابة 25 صحيفة ومجلة. مع كل هذا الرصيد (وأقولها من باب الاحساس بالمسؤولية) المتواضع، لا أتجرأ ان أقدم نفسي بعنوان صحافي، لأن هذه الحرفة ذات درجة عالية من الحساسية والتأثير والحرفية الدقيقة، علاوة على مسؤوليتها الأخلاقية الكبيرة، فأنا ما زلت أجد نفسي دون مستواها، وهذا ليس من باب التواضع، بل من باب الدقة وتحسس حيثيات الحرفة.

اعتذرت لزميلي المشار اليه أعلاه وقلت، يا رجل، أنني ما زلت دون مقام الصحافة وأقل منزلة من عنوان الصحافي، عليه كيف اسمح لنفسي تقويم الآخرين من العاملين في الحرفة؟ أعذرني يا شيخ سامحك الله.

ولمزيد من التوضيح أقول، ترى هل استقبلت صفحات جريدة دولية عربية كانت أم أجنبية، مقالا أو موضوعا لي ونشرته؟ الجواب، كلا. هل استطيع أن أنشر ولو مقال واحد، في الصحافة الغربية؟ كلا، لا أستطيع ذلك. بناء عليه، كل الذي أنشره في صحافتنا المحلية، لا يتجاوز كونه محاولات تجريبية ولعب خارج مضمار الحرفة. خصوصا وأن كتاباتنا يتعذر عليها الارتقاء فوق مستوى الخطب المؤدلجة أو المسيسة، هذه الأطر التي تفرغ العمل الصحافي من فحواه وتضع ضمير الصحافي على المحك. بمعنى ان سقف حرية الكتابة لا يرتهن لضمير المهنة وأخلاقيات الحرفة، قدر خضوعه لشروط وخطوط توضع وترسم من خارج أبجديات الصحافة. ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.

Top