عملاق الدبلوماسية الأميركية وفنان الواقعية السياسية.. محطات في حياة كيسنجر
رحل عن عالم السياسة العالمية، امس الخميس 30 تشرين الثاني 2023، هنري كيسنجر، عن 100 عام، أستاذ جامعة هارفارد، الذي أصبح الدبلوماسي الأميركي الأكثر براعة في إدارة ملفات دولية حساسة كالحرب الباردة وحرب فيتنام، والسلام بين مصر وإسرائيل.
وبصفته كبير مساعدي الرئيس، ريتشارد نيكسون، في السياسة الخارجية، تفاوض كيسنجر على خروج الولايات المتحدة من حرب فيتنام الكارثية، ليفوز بجائزة نوبل للسلام.
وكما أنه كان العقل المدبر لسياسة الانفراج التي أدت إلى ذوبان الجليد في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، وساعد في تحطيم السور الدبلوماسي العظيم، الذي كان يحيط بالصين الشيوعية لمدة عقدين ونصف من الزمن.
كما أن نجم كيسنجر، سطع بعد حرب عام 1973 بين مصر وإسرائيل، ليكون رجل السلام الذي أفضت جهوده إلى توقيع معاهدة بين البلدين المتجاورين.
وتوفي كيسنجر، عن 100 عام، في منزله بولاية كونيتيكت، بحسب ما أعلنت مؤسسته، اليوم الخميس.
قبل 100 عام، رُزقت أسرة يهودية في ألمانيا بطفل، وبمجرد بلوغه سن الـ 15 وتحديدا عام 1938، هربت الأسرة بالكامل إلى الولايات المتحدة، خوفا من الممارسات النازية، ليبدأ المراهق فصلا جديدا في حياته، وصار واحدا من أهم الدبلوماسيين في الولايات المتحدة.
وبات "هنري ألفريد كيسنجر"، مواطنا أميركيا بعد خمس سنوات من وصوله إلى الولايات المتحدة، وكانت حياته مادة خصبة للمؤرخين والدارسين، ونال إشادات توجت بجائزة نوبل للسلام عام 1973 بسبب جهوده لوقف إطلاق النار في فيتنام، لكن هناك من يعتبرونه مسؤولا عن إزهاق مئات الآلاف من الأرواح.
الرجل المولود في ألمانيا يوم 27 مايو /ايار 1923، باتت كتبه وسياسته مرجعا للدبلوماسيين في الولايات المتحدة، وترك أثره في أغلب من شغلوا مناصب رسمية في الخارجية الأميركية لسنوات طويلة، سواء بتدريسه في جامعة هارفارد أو عبر أفكاره وسياساته المتجذرة إلى الآن.
خدم كيسنجر في الجيش الأميركي والتحق بجامعة هارفارد، ودرّس هناك، ثم تولى منصب مستشار الحكومة الأميركية للسياسة الخارجية، وفي عام 1969، عيّنه الرئيس نيكسون مستشارا للأمن القومي، ليخطط حينها لزيارتين لا مثيل لهما إلى الصين والاتحاد السوفيتي عام 1972.
وحاولت واشنطن بالزيارتين نزع فتيل التوترات مع الدولتين الشيوعتين. وفي العام التالي، بات كيسنجر أول أميركي وُلد خارج الولايات المتحدة، يتولى منصب وزير الخارجية، واستمر في المنصب حتى بعد استقالة نيكسون، وقدوم جيرالد فورد.
وأعاد كيسنجر العلاقات مع الصين في السبعينيات بعد زيارة سرية عام 1971 مهدت الطريق لأخرى تاريخية للرئيس نيكسون في العام التالي، وفي حواره مع "سي بي أس"، نفى كيسنجر فكرة أنه كان من الأفضل ألا تتم تلك الخطوة وقال "لا يمكن استبعاد الصين من النظام العالمي".
لعب كيسنجر دورا كبيرا أيضا في اتفاق الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على إبطاء سباق التسلح النووي والحد من النزاعات وتجنب اندلاع حرب نووية، كما تمكنت واشنطن بسياساته من اتخاذ قرار الخروج من فيتنام التي تكبدت فيها خسائر فادحة، في صراع غير مباشر مع موسكو آنذاك.
القوة الأميركية
استخدم كيسنجر في سياساته قوة الولايات المتحدة وقدرتها على إحداث ما يعتبره توازنا، وتجاوز عن أمور أخرى مثل حقوق الإنسان والمثالية في التعامل مع الأزمات، ما جعل البعض يعتبره مسؤولا عن قائع مثل قصف كمبوديا ودعم أنظمة استبدادية مما أسفر عبر سنوات عن سقوط الآلاف من القتلى.
وبالفعل فقد واجه انتقادات قوية من اليسار التقدمي في الولايات المتحدة، وعلى رأسه بيرني ساندرز.
وكان ساندرز قد انتقد بشدة فخر وزير الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، بعلاقتها المقربة مع كيسنجر، وقال إن الأخير "من بين أكثر وزراء الخارجية تدميرا في التاريخ الحديث في هذه الدولة".
وتابع "فخور لأن هنري كيسنجر ليس صديقي. لن أحصل على نصيحة منه"، مشيرا إلى تورطه في قصف كمبوديا، الذي يعتبره البعض بمثابة "إبادة جماعية".
وتعد هيلاري كلينتون من أبرز المقربين من كيسنجر، وطالما أكدت على تواصلها معه بشكل مستمر خلال توليها منصب وزيرة الخارجية، وأنه كان يزودها بملاحظات بشأن زعماء وقادة العالم.
وقالت كلينتون إبان ترشحها للانتخابات التي خسرتها ضد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، عام 2016، إنها كانت في غاية السعادة حينما أبلغها كيسنجر أنها "أفضل وزيرة خارجية" شغلت المنصب منذ سنوات طويلة.
السلام بين مصر وإسرائيل
يعتبر كيسنجر مهندس عملية السلام بين مصر وإسرائيل، التي أنهت الحرب بينهما، وكانت أول إسكات نهائي لجبهة عربية تحارب إسرائيل، وساهم في تحوّل مصر بشكل تام من الأحضان السوفيتية إلى الجانب الأميركي، وذلك باتصالاته الواسعة مع الرئيس المصري الراحل، محمد أنور السادات.
ظل كيسنجر طوال حياته المهنية يكتب ويحاضر في الشؤون الخارجية، وعلى الرغم من أنه لم يتولَ أي منصب حكومي منذ نحو 25 عاما، فإنه استمر في إثارة الجدل بكلماته، وآخرها حديثه بشأن أزمة أوكرانيا، وضرورة منحها أراضي لروسيا من أجل وقف الحرب، قبل أن يتراجع عن حديثه.
متمسك بمواقفه
أجرى كسينجر مؤخرا حوارا مع شبكة "سي بي أس" الأميركية، وحينما سأله المذيع عن رد فعله نحو كثير من التساؤلات من البعض عن "مشروعية" إجراء مثل هذا اللقاء، فرد كيسنجر "يعكس ذلك جهلهم".
وحينما تطرق إلى قصف كمبوديا إبان حكم الرئيس الأسبق، ريتشارد نيكسون، قال كيسنجر: "لقد قصفنا بالمسيرات وكل أنواع الأسلحة جميع التنظيمات التي نعارضها وتنتهج نظام حرب العصابات"، في إشارة إلى الإدارات الأميركية التي تلته.
وتابع الدبلوماسي المخضرم: "هذا اللقاء الآن يدور حول أنني سأتم 100 سنة. وتختار موضوعا يعود إلى 60 عاما مضت. يجب أن تدرك أنها كانت خطوة ضرورية".
وكيسنجر هو الشخص الوحيد على الإطلاق الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض ووزير الخارجية في نفس الوقت، ولذلك فقد مارس سيطرة على السياسة الخارجية للولايات المتحدة نادرا ما يعادلها أي شخص لم يكن رئيسا، وفق تقرير لصحيفة واشنطن بوست .
وعندما عينه الرئيس نيكسون مستشارا للأمن القومي، خطط كيسنجر حينها لزيارتين لا مثيل لهما إلى الصين والاتحاد السوفيتي عام 1972.
وعندما تم تعيينه وزيرا للخارجية، أظهر استطلاع أجرته مؤسسة "غالوب" أنه الشخص الأكثر إثارة للإعجاب في البلاد.
وبات كيسنجر أول أميركي وُلد خارج الولايات المتحدة، يتولى منصب وزير الخارجية، واستمر في المنصب حتى بعد استقالة نيكسون، وقدوم جيرالد فورد.
وفي عام 2014، قال جون كيري، الذي كان وزيرا للخارجية آنذاك: "هنري كيسنجر... كتب حرفيا كتابا عن الدبلوماسية".
وأضاف "لقد أعطانا كيسنجر، مفردات الدبلوماسية الحديثة، وهي عبارة (الدبلوماسية المكوكية) و(الصبر الاستراتيجي)".
وكان كيسنجر "مهندس" انفتاح الولايات المتحدة على الصين، وتفاوض على خروجها من فيتنام، وإعادة تشكيل علاقات الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفييتي في ذروة الحرب الباردة، وفق تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز".
وأطلق كيسنجر عجلة التقارب بين واشنطن وكل من موسكو وبكين في سبعينيات القرن الماضي وقد حاز في 1973، تقديرا لجهوده السلمية خلال حرب فييتنام، جائزة نوبل للسلام مناصفة مع الفيتنامي، لي دوك ثو.
الدبلوماسية "السرية"
ومن بين إنجازات كيسنجر الدائمة الإشراف على "التواصل السري" لإدارة نيكسون في أوائل السبعينيات مع الصين، مما أدى إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين واشنطن وبكين، حسبما يشير تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال".
وينسب إلى كيسنجر الفضل في تشكيل "الدبلوماسية السرية" التي ساعدت الولايات المتحدة في عهد نيكسون، على الانفتاح على الصين، وفق تقرير لشبكة "سي إن إن" الإخبارية، وهو ما أبرزته زيارة نيكسون للصين في عام 1972.
وأدت المفاوضات السرية التي أجراها كيسنجر مع ما كان يسمى آنذاك بـ"الصين الحمراء" إلى إنجاز نيكسون الأكثر شهرة في السياسة الخارجية.
وكان المقصود منها أن تكون خطوة حاسمة في "الحرب الباردة" لعزل الاتحاد السوفييتي.
وكان لهذا التنفيذ الناجح لـ"الدبلوماسي السرية". الفضل في المساعدة على قلب التوازن العالمي ضد الاتحاد السوفييتي وتسريع اندماج بكين في الاقتصاد الدولي.
وأعاد كيسنجر العلاقات مع الصين في السبعينيات بعد "زيارة سرية" عام 1971 مهدت الطريق لأخرى تاريخية للرئيس نيكسون في العام التالي.
وفي رحلة إلى باكستان، أفلت كيسنجر من الصحفيين المتجولين بالتظاهر بالمرض وسافر سرا إلى بكين لتأمين الدعوة الرئاسية، الأمر الذي أذهل العالم عندما أُعلن عنها.
وشهد شهر فبراير 1972، الحدث الذي أعاد تشكيل توازن القوى العالمي، فقد كان نيكسون، الذي بنى مسيرته السياسية على معارضة الشيوعية، يرغب منذ فترة طويلة في الذهاب إلى الصين، وكان الصينيون على استعداد لذلك.
وقد أنتجت هذه الرحلة، من بين أمور أخرى، "بيان شنغهاي"، الذي اعترفت فيه الولايات المتحدة بأن "تايوان جزء من الصين".
كما اتفقت الدولتان على أنه بمجرد ترسيخ هذا المبدأ، فإنهما "لن تفعلا أي شيء لتغيير وضع تايوان شبه المستقل".
ولا يزال هذا هو أساس السياسة الأميركية والصينية بشأن تايوان.
نهج "الانفراج"
وكان نهج الانفراج والواقعية السياسية الذي اتبعه كيسنجر في التعامل مع العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، قد ساعد في تخفيف التوترات وأدى إلى العديد من اتفاقيات الحد من الأسلحة، هو الذي قاد الموقف الأميركي إلى حد كبير حتى عهد ريغان.
وكان كيسنجر ممارسا لشكل من أشكال فن الحكم الدولي يسمى السياسة الواقعية، والتي يقول منتقدوه إنها وضعت هدف موازنة مصالح القوى العالمية فوق مساعي الديمقراطية وحقوق الإنسان، حسبما تشير "وول ستريت جورنال".
وتمكنت واشنطن بسياساته من اتخاذ قرار الخروج من فيتنام التي تكبدت فيها خسائر فادحة، في صراع غير مباشر مع موسكو آنذاك.
ومن بين إنجازات كيسنجر الأخرى معاهدة الحد من الأسلحة (سولت 1) لعام 1972 مع الاتحاد السوفييتي، والتي تم التفاوض عليها عندما كانت القوتان العظميان النوويتان منخرطتين في حرب باردة وتواجه كل منهما الأخرى في حروب بالوكالة في جميع أنحاء العالم.
وتضع اتفاقيات "سولت" قيودا على أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ الباليستية وعلى نشر الصواريخ الهجومية وتلزم البلدين فعليا بـ"الانفراج بدلا من المواجهة".
وباعتباره مهندس "انفتاح" نيكسون التاريخي على الصين، وباعتباره "منظرا" للانفراج مع الاتحاد السوفييتي، حصل الدكتور كيسنجر على الكثير من الفضل في التحولات السياسية الزلزالية التي أعادت توجيه مسار الشؤون العالمية.
الدبلوماسية "المكوكية"
في الشرق الأوسط، شكل كيسنجر ما يعرف باسم "الدبلوماسية المكوكية" للفصل بين القوات الإسرائيلية والعربية بعد تداعيات حرب يوم الغفران عام 1973.
واندلع هذا الصراع بعد أسبوعين من أداء كيسنجر اليمين كوزير للخارجية مع احتفاظه بمنصبه في البيت الأبيض كمستشار للأمن القومي.
وكانت حرب الستة عشر يوما التي بدأت في 6 أكتوبر 1973، بهجمات منسقة على إسرائيل من قبل مصر وسوريا، أصعب الاختبارات في حياة كيسنجر المهنية، حسبما تشير "واشنطن بوست".
وهددت الحرب وجود إسرائيل، وأشعلت مواجهة مع الاتحاد السوفييتي، وألهمت السعودية وغيرها من المصدرين العرب لفرض حظر نفطي أدى إلى شل تدفق الوقود في العالم.
وساعدت "دبلوماسيته المكوكية" الشهيرة بعد حرب عام 1973 في استقرار العلاقات بين إسرائيل وجيرانها العرب، وفق "واشنطن بوست".
وتفاوض كيسنجر على إنهاء حرب يوم الغفران عام 1973 التي أشعلتها الهجمات المشتركة بين مصر وسوريا على إسرائيل.
وجاء وقف إطلاق النار في أعقاب الجسر الجوي الأميركي المثير للأسلحة إلى الدولة اليهودية والذي أثبت أهميته لدرء التقدم الأولي للجيوش العربية.
كان هو ومسؤولون أميركيون آخرون يشعرون بالقلق من أن الصراع قد يتصاعد إلى أول صراع عسكري مباشر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، الذي كان الراعي الرئيسي للقاهرة ودمشق.
وفي النهاية، كانت نتائج الحرب إيجابية في معظمها، وانتهى القتال عندما وافق الرئيس المصري، أنور السادات، على إجراء محادثات عسكرية مباشرة مع الإسرائيليين.
وكان كيسنجر قادرا على الحفاظ على أساسيات "الانفراج" مع استبعاد السوفييت من مفاوضات السلام التي تلت ذلك.
ومن أجل تمديد وقف إطلاق النار الهش وتحقيق الاستقرار في العلاقات بين إسرائيل وجيرانها العرب، قام كيسنجر بما أصبح "مهمته المميزة".
وابتداءً من يناير 1974، ذهب إلى الشرق الأوسط 11 مرة للترويج لاتفاقيات فض الاشتباك العسكري التي من شأنها تسهيل حقبة جديدة من مفاوضات السلام.
وكانت أكثر مهمات "الدبلوماسية المكوكية" شهرة هي الماراثون الذي استمر 34 يوما في ذلك الربيع، حيث زار القدس 16 مرة ودمشق 15 مرة، وسافر إلى ستة دول أيضا.
لم تسفر هذه الماراثونات عن أي اتفاقات "سلام دائمة" خلال فترة تولي كيسنجر مهام منصبه، لكنها نجحت في تحقيق الاستقرار في منطقة مضطربة وجعلت الولايات المتحدة "وسيط حصري" بالشرق الأوسط، مع استبعاد الاتحاد السوفييتي.
وخلال السنوات الثماني التي قضاها في الخدمة الحكومية، والتي امتدت من عام 1969 حتى عام 1977، منح الرئيس الأميركي السابق، جيرالد فورد، كيسنجر وسام الحرية الرئاسي.
وظل كيسنجر حتى وفاته فاعلا على الساحة السياسية الدولية ولم يثنه تقدمه في السن عن السفر ولقاء العديد من قادة العالم، وكان آخرهم الرئيس الصيني، شي جينبينغ، الذي التقاه في يوليو الفائت في الصين، وفق وكالة "فرانس برس".