• Tuesday, 14 May 2024
logo

"إحنة" مشينا للحرب*

معد فياض



في الذكرى الـ 40 لاشتعال الحرب العراقية الايرانية

كان كل العراق قد ارتدى البدلة الخاكية قبل ايلول 1980، العسكرة غزت كل شيء، ايامنا وكتبنا ولغتنا وموسيقانا وقصصنا، قصائدنا واغانينا واحلامنا ونسائنا واطفالنا، وقبل ذلك بكثير، اي منذ السنوات الاولى التي سيطر فيها حزب البعث على السلطة وعلى العراق والعراقيين.

كان الخاكي قد عمم على قوات الجيش الشعبي، فصائل بعثية، او بالاحرى ميليشيات بعثية، انضم اليها قسراً وطوعاً شباب وشابات وشيوخ ونساء من مختلف الاعمار، كانوا يتدربون في ابنية المدارس، على الاسلحة بعد نهاية دوامهم الرسمي في دوائر الدولة على ايدي عرفاء في الجيش العراقي، ثم يخرجون في جوقات مهرولة بالشوارع وبين الناس وهم يصرخون مرددين انشودة للفدائيين الفلسطينيين شاعت بعد نكسة حزيران 1965، يقول مطلعها "طالعلك يا عدوي طالع.. من كل بيت وحارة وشارع"، ولا ندري اي عدو كانوا يعنون.

وعلى مدى عصر البعث كان هناك أعداء وليس عدوا واحدا، أعداء حقيقيون او متخيلون او مختلقون، حتى الكورد العراقيين كانوا بالنسبة للسلطة أعداء، العراقيون انفسهم كانوا موضع شك دائم للنظام وهم أعداء محتملون.

عندما تسلم صدام حسين السلطة علانية او رسمياً في تموز 1979 صار حتى الاطفال يتدربون على السلاح حيث قاد نجله الاكبر عدي بعد سنوات ما يسمى بأشبال صدام وفدائيي صدام، والغريب ان الاباء كانوا يتفاخرون بأن اطفالهم يستطيعون تفكيك وشد الكلاشنكوف بعشر دقائق.

في شهر ايلول، لا اعرف اليوم بالضبط، لكنه بالتأكيد ايلول عام 1980 والمكان هو ساحة النهضة حيث الكراج الرئيسي في جانب الرصافة للحافلات التي تنطلق الى جنوب وشرق العراق.

المشهد يبدو مزدحما للغاية، وساخناً، مؤثثاً بالجنود الذين يحملون حقائبهم وهم يتوجهون الى مواقع ومعسكرات في جبهات القتال التي كانت قد اشتعلت قبل ايام ليست قليلة في الحدود الشرقية مع القوات الايرانية.

كراج النهضة ارتدى البزة الخاكية، الزحام بلغ اشده مع غياب او شحة الحافلات المتجهة الى وسط وجنوب وشمال البلاد، جنود من جميع الاعمار، غالبية بينهم من هم في اعمار الثمانية عشر عاماً وصعوداً الى من هم في اوائل واواسط الثلاثينات.

امهات وزوجات واباء جاءوا لوداع ابنائهم وازواجهن، بينما تختلط اصوات المذيعين الزاعقة بالبيانات الصادرة عن القيادة العامة للقوات المسلحة ضد "الفرس المجوس" والمنطلقة من اكثر من مذياع في المقاهي والمطاعم القريبة، مع اصوات باعة الاطعمة والصحف والسجائر والجنود الباحثين عن مقعد في اية حافلة تذهب بهم الى كارثة القتال والموت.

تتوقف البيانات المشحونة بلغة انشائية حماسية لتنطلق بعدها جملة من الاغاني التي تمجد القتال والتي سميت آنذاك باغاني الحرب، او اغاني قادسية صدام، "شمس احنة شمس.. للي يحبنه شمس.. درس ننطي درس للي يضدنة درس" و"الله واكبر للنصر خطواتنا"، و"يا شبل زين القوس سلم على القسطل وقل له عدنا، عدنا ولم نرحل"، ثم يعود صوت المذيع يعلو وهو يتلو بياناً حماسياً جديداً، انه في الحقيقة لم يكن يقرأ البيان بل كان يصرخ بكل ما في حنجرته من طاقة.

فيما بعد تراكمت هذه الاغاني وشكلت ايقاع الحياة اليومية، اغاني تمجيد الحرب والرئيس صدام حسين. اغاني بقيت محفورة في الذاكرة الجمعية للعراقيين، منها "احنة مشينا للحرب" من كلمات كاظم الركابي والحان طالب القرة غولي، اغنية من اربعة اسطر لحنت وفق قالب موسيقى البوليرو لمؤلفها الفرنسي رافيل، اي ان يتكرر المقطع تصاعديا مرفقا بهمهمات، كلمات الاغنية (الرومانسية) تقول:

"أحنا مشينه مشينه مشينه للحرب....

عاشگ يدافع من اجل

محبوبته محبوبته محبوبته..

هذا العراقي العراقي العراقي من يحب يفنى ولا عايل يمس

محبوبته محبوبته محبوبته

احنه مشينه للحرب".

كان الموضوع برمته جديدا بالنسبة لنا، مشاعر جديدة لم ندشنها من قبل، مشاعر حزينة للغاية. الامهات كن يبكين بحرقة وهن يودعن ابنائهن، الم يقل نابليون بونابرت ان "الحروب تدور في صدور الامهات"، حتى الابناء كانوا يبكون، هل هذا مشهد من مشاهد قيامتنا، بل قياماتنا التي قدرها الرئيس القائد صدام حسين لنا على مدى سنوات حكمه للعراق.

لم نكن نعرف ماذا تعني الحرب، الحرب بالنسبة لنا، او لاقل بالنسبة لي هي مجموع ما شاهدته من افلام ومشاهد ولقطات سينمائية او تلفزيونية عن الحرب العالمية الثانية، الماكنة الاعلامية الحزبية والحكومية العراقية كانت تريد ان تصور الحرب نزهة يتبارى فيها الابطال.

كانت هناك حرب اسماها العراقيون (حرب الشمال) او (معارك الشمال) التي كان الجيش العراقي يُجبر فيها على محاربة ابناء شعبهم من الكورد في مدنهم وقراهم في شمال الوطن الذي صار فيما بعد اقليم كوردستان العراق، وقد فقد الجيش العراقي الكثير من شبابه، كما فقد الكورد الكثير من رجالهم ونسائهم واطفالهم في هذه المطحنة الدموية التي استمرت منذ ما قبل تأسيس الدولة العراقية تقريبا وحتى نهاية نظام الرئيس صدام حسين في 2003 ، من اجل اجبار الكورد على عدم المطالبة بحقوقهم القومية.

الا اننا ومنذ ان تسلم صدام حسين زمام السلطة، بأي طريقة كانت، او السيطرة، عرفنا وعشنا حروباً متتالية، بل صرنا اكثر الشعوب معرفة بالحروب والقتال وانواع الاسلحة.

ان تاريخنا، في الواقع، هو تاريخ الانقلابات العسكرية، والاغتيالات والمؤامرات والحروب والتهجير. وصار تقويم الاحداث مرتبطاً بالحروب والاقتتال والتفجيرات.


*من كتابي، قيد الانجاز، "خوذة مثقوبة" عن الحرب العراقية الايرانية.








روداو
Top