• Friday, 03 May 2024
logo

كورد العراق ودستوره وحكاية السبعينيات

كورد العراق ودستوره وحكاية السبعينيات
روستم محمود


في ظلال التجاذبات التي جرت بين إقليم كوردستان والسلطة المركزية في العراق طوال الشهور الماضية، حضر الدستور العراقي بمستويين اثنين، متباينين تماماً، حتى يخال المرء بأن ما يتم تداوله ليس نصاً دستورياً واحداً في نفس البلد.

فمن جهة، حددت الحكومة والقوى السياسية المركزية الحاكمة، السُنية والشيعية على حدٍ سواء، رزمة ضخمة من الفروض الأمنية والمالية والسياسية والرمزية التي قالت إنه على إقليم كوردستان أن يلتزم بها، باعتبارها "حقوقا دستورية" للسلطة المركزية، والتي على الإقليم أن يلتزم بها تماماً وحرفياً، ودون أي تأخر.

في كامل تفاصيل تلك الرزمة، استندت الحكومة والقوى السياسية المركزية إلى تفسيرها لمواد الدستور.

فالدستور في المحصلة هو مجموعة من البنود، المتخمة بالتعابير والاستعارات اللغوية الفضفاضة ، بالإضافة إلى المواد التي تحتاج إلى قوانين وتشريعات تنفيذية. الأمر الذي يعني بأن أي قوة سياسية، تملك أغلبية برلمانية وهيمنة على المؤسسة القضائية، تستطيع أن تفسر هذا الدستور حسب مشيئتها، أن تجرها لصالحها قدر ما ترغب، حتى أن تخرجه من بداهاته العادية، وهو ما فعلته وتفعله السلطة والقوى السياسية المركزية العراقية تماماً، طوال الشهور الماضية.

على مستوى نقيض، اللجنة البرلمانية المُشكلة لتقديم مقترحات لتعديل الدستور العراقي، التي خلت من أعضائها الكورد، كانت تطالب بإجماع أعضائها إلغاء المادة 140 من الدستور العراقي الحالي . حيث أن المادة 140 من الدستور العراقي الحالي كانت الوحيدة التي أعتبرها الكورد مكسباً سياسياً في العهد الجديد؛ لأنها تخص وتحدد الآليات الدستورية السلمية لتحديد مصير المتنازع عليه، بين سلطتي المركز والإقليم، بما في ذلك مصير محافظة كركوك. وحيث أنه ولأول مرة بعد قرن كامل من الصراع الدموي، اعتقد الكورد بأنه ثمة حل ما دستوري وسلمي لأكبر معضلاتهم مع السلطة المركزية في البلاد.

لغير صدفة، فإن تلك المادة الدستورية كانت الوحيدة التي لم تنفذ كل من الحكومات العراقية المتعاقبة، منذ العام ،2005 أيا من بنودها، واجتمعت كل القوى السياسية المركزية على كبحها وتغييبها عن أي نقاش جدي في البلاد، وصارت تطالب راهناً حتى بإلغائها من الدستور.

حسب هذه الوقائع ، فإن ما يتم تداوله ليس "دستوراً"، بما يعني من قانون أعلى يحكم ويحدد العلاقة والسلطات والحقوق والواجبات بين مختلف "أبناء أمة المواطنين"، حسب مناطقهم ومواقعهم وتشكيلاتهم التنظيمية داخل البلاد، بل فقط "استخدام للدستور".

إذ صار هذا "الدستور" أقرب وأشبه ما يكون لأداة سلطوية عليا، تملكه وتستخدمه أغلبية أهلية، قومية وطائفية. تفسر وتستخدم وتختار هذه الأغلبية الأهلية من النصوص الدستورية ما يناسب نزعاتها ومصالحها، وما قد يكون منها ضد تكوين أهلي وقومي آخر. تستفيد هذه الأغلبية من تحويل أغلبيتها الأهلية إلى أغلبية سياسية غير مقيدة، وتستغل وضع جماعة أخرى هي أقلية أهلية قومية، ويُستحال حسب ظروف البلاد الراهنة أن تتحول إلى أغلبية سياسية، أو حتى جزء منها، وتالياً هي محرومة تماماً من كل حقوقها في تفسير وتنفيذ هذا الدستور، برلمانياً وقضائياً وتنفيذياً، حيث تتحكم "الجماعة الغالبة" بذلك تماماً.

بهذا المعنى، وحينما لا يكون الدستور شاغلاً لموقعه الطبيعي ولا يقوم بأدواره الموضوعية ، يغدو العراق كياناً دون دولة، الدولة باعتبارها مجموعة ضخمة من المعايير والمؤسسات المجردة من الهويات والنزعات الأهلية بين أمة المواطنين. وتالياً، الكيان العراقي هذا محكوم من سلطة ما "عارية" من أي قيد دستوري. فالدستور هنا هو مجرد أداة تملكها جماعة أهلية بذاتها، تُخضع به الجماعات الأهلية الأخرى.

احتاجت العلاقة بين كورد العراق وكيانه المركزي إلى خمسة عشر عاماً فحسب، لتصل إلى هذه النتيجة القاسية من المكاسرة المحضة.

فحينما أُقر الدستور العراقي عام 2005، عقب إسقاط النظام الديكتاتوري العراقي السابق، كان الأكراد العراقيون يُمنون النفس بأن عصر الصراعات المريرة مع الدولة المركزية والجماعات الأهلية المالكة قد انتهى، وأن الدستور العراقي الجديد، الذي بُني على كتلة من الحقوق والسلطات المعقولة لأبناء القومية الكوردية، إنما سيكون كفيلاً وحكماً مناسباً لعلاقتهم وموقعهم في الكيان الجديد.

في ذلك الوقت، كان المجتمع والقوى السياسية الكوردية تستحوذ من القوة الذاتية والحضور السياسي ما يدفعهم للإيمان والركون إلى ذلك، في نفس الوقت الذي كان السلطة المركزية مفككة، دون مؤسسات مهنية وأحزاب قوية وأجهزة أمنية وأدوات اقتصادية.

لكن، ما أن تغيرت موازين القوة تلك بين الطرفين، وأعادت السلطة المركزية تشييد مؤسساتها وأجهزة حُكمها، حتى صارت تجر الكيان العراقي ليكون خلاء من أي قيّم أو مؤسسات تتمثل لروح الدولة عبر الدستور، الذي قيل قبل سنوات قليلة بأنه كُتب بعدالة ما بين مجموع العراقيين.

قبل نصف قرنٍ تماماً، في أوائل السبعينيات من القرن المنصرم، وبعد سلسلة من الانقلابات المتتالية التي نفذها الضباط القوميون على بعضهم طوال عقد الستينيات ، والتي أدت عملياً لتفكك الجيش العراقي من داخله، وتالياً فشله في قمع الانتفاضة الكوردية التي كانت قد اندلعت في أوائل الستينيات، مالت السلطة البعثية الحاكمة وقتئذ للتوقيع على إعلان للحُكم الذاتي مع الحركة القومية الكوردية، في شهر آذار من العام 1974.

وضعت الحركة التحررية الكوردية السلاح جانباً وقتئذ، ونزل مقاتلوها من الجبال، وصار الكُرد كجماعة قومية في العراق تحس بنوع من المساواة مع نظرائهم من العراقيين الآخرين، في العالم الرمزي ومؤسسات الدولة.

لم تمضِ إلا سنوات قليلة، حتى تمكن الحُكام البعثيون من إعادة تنظيم الجيش العراقي وتسليحه، الذي كان خالياً تماماً من العناصر الكوردية، وما أن فعلوا ذلك، وخلقوا تحالفات دولية وتوافقات إقليمية، حتى أعادوا توجيه المدافع نحو المناطق الكوردية، وتخلوا عن كل شيء كانوا قد وافقوا عليه من قبل، فانهارت الثورة الكوردية عام 1975، وتشرد مئات الآلاف من المواطنين الكورد.

اليوم، وبالضبط مثلما لم يكن الجيش العراقي وقتئذ قوة فوق الصراعات الأهلية/السياسية في البلاد، بل سلاحاً عارياً بيد جماعة أهلية ونزعة سياسية ما ضد أخرى، فإن الدستور العراقي راهناً يمارس نفس الوظيفة التي كان يقوم بها الجيش العراقي في الأمس.

ما أتعس البلدان التي يشبه حاضرها أمسها.







باسنيوز
Top