• Saturday, 04 May 2024
logo

تأملات في السياسة: المثقف والخير العام ، الاخلاق والفضيلة ، النزاع والهدنة

تأملات في السياسة: المثقف والخير العام ، الاخلاق والفضيلة ، النزاع والهدنة
الباحث المعروف في علم السياسة (من شيلي) : أنكل فليس فيش Angel Flisfisch يؤكد أن المثقفين اشتركو في السياسة النظرية و العملية لان الاخيرة (أي السياسة) قد " ثقفت نفسها intellectualization "وأنها تحولت الى "ألية Mechanism" هدفها توصيل الحقيقة الى المجتمع والتي تظهر من خلال المعرفة العقلانية التي هي في أيدي المثقفين ، وأن السياسين هم في خدمة تحقيق هدف توصيل الحقيقة. وهكذا فان الثقافة هي نقل القيم العملية الى حقل السياسة.
ومنذ أن اكتشف الاغريق أن للعملية السياسية المتعلقة بإقامة نظام حكم ، علم خاص هو (علم السياسة) ، والذي اكتسب أهمية خاصة في الفكر السياسي بحيث أطلق علية (أرسطو المتوفي 322 ق.م.) صفة (ملك العلوم).
(أرسطو) يعتبر أول من وضع أسس واقعية لعلم السياسة في كتابه الشهير (السياسة ، 320ق.م.) ونظر الى الحياة السياسية نظرة واقعية وإنطلق من مبدأ مهم وهو : أن الانسان إنما يسعى تلقائيا الى الخير والسعادة عن طريق تحقيق أمور مهمة وضرورية تتعلق بالفضيلة والاخلاق. إن الانسان عندما يحاول معرفة الخير وتحقيقه ، فانه في محاولته هذه ، وكما يلاحظ (أرسطو في كتابه : الاخلاق الى نيقوماخس) ، يعكس خاصية اختص بها الانسان وهي : أن الانسان كائن سياسي بطبيعته .
إن أساس العلم السياسي هو تأمين النظام للمجتمع . وعليه وعندما إنطلق (أرسطو) وبحث في السياسة وعلمها إنما اتجه في الاول الى تحليل المعاملات البشرية أو بصورة أدق المعاملات الانسانية. إن هذا يعني بوضوح : البحث في الاخلاق والذي يمثل الجزء الاول من السياسة. وهكذا فان البحث في السياسة يتطلب أصلا البحث في الاخلاق ، وهذا بدوره يتطلب البحث عن الفضيلة والتي تعني ترك الرذائل وهذا يعني بدقة : السياسة تعني الاخلاق والفضيلة وترك الرذيلة. وهنا يجب أن نميز مابين الفضيلة والسياسة ، حيث أن الفضيلة تتعلق بالفرد ، بينما السياسة تتعلق بالجماعة. والسياسة (متسلحا بالاخلاق والفضيلة) هي التي توفر للجماعة العدالة والمساواة والتربية الفاضلة. وهنا فالدولة تكون في خدمة السياسة الرامية الى رعاية القانون وتنفيذه من أجل تحقيق هدف أعلى وهو: تحقيق الخير والسعادة والعيش في حياة اجتماعية كاملة وسليمة. في هذه الدولة ( اسماها اليونانيون ب بولس Polis) التي تطبق الديمقراطية المباشرة ، فان المواطن الحر له حق الاشتراك في السلطة وهذا ينظم وفق الدستور الذي هو شكل التنظيم المؤسسي للمدينة(أي للدولة) وهذا يعني تنظيم حياة المواطنين. وبهذا فان (أرسطو) يساوي مابين الدستور وحق المواطنية ، وهذا ناتج عن كون الانسان كائن سياسي لايستطيع العيش خارج الجماعة ، أي أنه كائن يريد أن يعيش في مجتمع جيد يتساوى فيه المواطنون.وبهذه الخاصية ، فان الانسان هو كائن عاقل ومفكر ويقع علية معرفة الخير والشر ، الصح والخطأ ، العدل والظلم. وهكذا فان اساس الجماعة الانسانية هو المعرفة الاخلاقية.إن فضيلة المواطن الصالح (برأي أرسطو) مرتبطة بمضمون دستور المدينة (الدولة).
وبسبب تنوع الدساتير ( بعضها جيد وبعضها سيء) ، فإن فضيلة الرجل الصالح تتطابق مع فضيلة المواطن الصالح فقط في المدينة الجيدة (الدولة الجيدة) المنظّمة وفق دستور جيد الذي يخدم حاجات المواطنين وأن أي تقصير في محتوى الدستور سوف يخدم فقط حاجات الحكام ومصالحهم الشخصية. وهنا فانه على العاملين في الحقل السياسي البحث عن أفضل الدساتير وعن أي نوع من الناس يتناسب الدستور معهم.وعليه فان السياسي يجب أن تكون لديه معرفة واضحة بالدساتير وبطريقة وضعها بالدساتير وبالفروقات بينها.هذا الاختلاف في الدساتير يرجع الى اختلافات وفروقات في البنية والطبقات و المراتب الاجتماعية ، والتي ستحدد نوع الدساتير.في رأي (أرسطو) أن الدستور الذي هو أكثر منفعة وفائدة للمواطنين ، يجب أن يتمتع بقوة تكفل استمراريته . إن هذه القوة تتعلق بوجود قسم من المواطنين الذين هم موافقون على دستور معين , هم أقوى من من القسم الذي رفض الدستور.
وهنا فان تساؤلا مهما يبرز حول التغييرات البنيوية في الحياة السياسية : ماهي أسباب التغيرات الدستورية؟ ماهي الظروف التي تسبب ضررا لاحقا بالدستور؟وكيف يتحول شكل دستوري لنظام معين الى شكل اخر؟
في هذه المناقشات سنواجه مسألة قضية ماهو أفضل أنواع الحكم؟ في رأي (أرسطو) أن أفضل أنواع الحكم ، هو ذلك الحكم الذي يتولاه أفضل الرجال ونظام الحكم من هذا النوع هو الذي يتفوق فيه الفرد بفضيلته وأخلاقه ومعرفته ومؤهل للحكم بحيث أن الاخرين يخضعون له بطواعية.
ولكن مالذي سيحدث في حالة النزاع حول السلطة؟
إن الشيء الذي يؤدي الى النزاع يتعلق بأن البعض من المشاركين في العملية السياسية يرون في المساواة والخير العام خطرا على تطلعاتهم المتعلقة بالامتيازات والمصالح الخاصة وهكذا تبرز اراء حول التبديل والذي قد يحصل بالعنف او بالحيلة والتضليل.غن هذا الوضع قد يمتد لفترة طويلة ويحصل تدهور في العملية السياسية. ومن اجل معالجة هذا الوضع لابد من الاعتراف بالمواقف التي تؤدي الى التغيير وإلا ستحدث أشياء تتعلق ب:اللامبالاة وخرق الدستور والخروج عن القانون ، ولذلك نرى أن (أرسطو) في كتابه السياسة عرض العوامل التي تحفظ الدستور ومنها تطبيق القوانين وعدم السماح بتمرير مايصبح فيما بعد قوة داعية للفوضى.
واذا لم يتم حل هذا النزاع وفق معادلات السياسة ، فانه يصبح معرضا للخطورة التي تعرض نظام الحكم والحياة السياسية للخطر والانهيار، ولذلك فان الوضع يحتاج الى هدنة يرتاح فيها المحاربون ويراجعون أفكارهم واطروحاتهم ومواقفهم ومن ثم لابد لهم أن يرجعوا الى وسيلة تبادل الاراء ومناقشتها للوصول الى حلول للازمة والنزاع.
Top