• Friday, 26 April 2024
logo

الديمقراطية الرديئة

الديمقراطية الرديئة

طارق كاريزي

 

وردتنا الديمقراطية كسلعة مستوردة من الغرب. فالنظام السياسي في الشرق ورث ممارسة السلطة من بعد ماورائي، يعتبر فيه الحاكم وكل من يمثل السلطة ظل الله على الأرض أو المخوّل من الرّب للتحكم في رقاب العباد وشؤون ادارة البلاد والرعية. فيما الحكم والسلطة بمفهومهما الغربي المستمد من الثقافة اليونانية، يعني حكم الشعب وتفويضه الذي يجري عبر عملية انتخابات يترشح فيها الشخص والجهة التي تفوّض بادارة السلطة من قبل الشعب.

بهرج الحضارة الغربية ألقت بظلالها الكثيفة على مختلف مناحي حياة الشعوب والأمم لتقدم نموذجا عالميا للحياة والمدنية المعاصرتين، وجاءت تطبيقاتها على المستوى السياسي بموجب مفهوم الديمقراطية التي اجتهد المنظرون في شرحها وتصنيفها وتبويبها. وآخر موجة ديمقراطية قدمت الينا، تبنتها الولايات المتحدة الامريكية وهي تقود تحالفا دوليا أسقط النظام الشمولي في العراق عام 2003 لتفتح لنا، بموجب الطرح النظري الذي تم تبنيه، باب الحياة الهنية تحت رياح وأجواء وطقوس الديمقراطية وظلالها الوارفة.

على أرض الواقع، استبشرنا خيّرا وحقيقة كنّا محقين في استبشارنا ذلك، لأن الظلال المعتمة للحكم الشمولي جعلت حياة الافراد جحيما لا يطاق، ولاحقا عندما خضنا التجربة الديمقراطية عمليا، لمسنا البون الشاسع الذي يفصلنا عن حلم الديمقراطية المنشودة، خصوصا بعد تسيّد قوى وشخصيات غير مؤهلة للتعامل مع المنطق الديمقراطي الذي يجعل من مبدأ المصلحة العامة المعيار الذي يحدد مساحة المناورة ويبلور الأهداف المرجوة من مجمل العملية السياسية، لذلك بات العراق يعيش منذ عقدين حالة من التخبط والفوضى غير الخلاقة تحت شعار الديمقراطية بسبب انعدام الخبرة والرصيد والثقافة الديمقراطية التي ترسي لنظام من هذا القبيل.

روح الديمقراطية ليست كما يفهمها تجار السياسة أو مراهقو الساحة السياسية العراقية، لقد تحول البلد الى ملعب مفتوح للعب واللهو والعبث بمقدرات مواطنيه، وبذلك تحول العراق الى سفينة تمخر عباب بحر الزمان بربابنة لا يجيدون القيادة ولا يفقهون أمور وشؤون الادارة سوى من باب الأهواء أو انطلاقا من مآرب أو أوامر ترشدهم لوضع العراقيل والمعوقات أمام مسيرة العميلة السياسية، وبموازاة ذلك جني الأموال ومراكمة الأرصدة المالية بصورة غير شرعية. وقد دفع الشعب العراقي باهضا ثمن الممارسات الهوجاء التي يطلق لها العنان سياسيّون وجدوا أنفسهم في مواقع السلطة نتيجة وضع غير طبيعي يعيشه البلد.

شعب كوردستان العراق قدر له ارتباط مصيره بالعراق وبالنتيجة الخضوع لمغامرات ومناورات اناس يتحكمون بمصادر القرار في الدولة العراقية، وهو يعاني الأمرّين، في ظل شعارات تدعي الديمقراطية وهي تمارس كل أشكال سياسات العسف والقهر والحرمان ضد شعب كوردستان. يبدو ان مشكلة كوردستان مع السلطات في بغداد كتب عليها الاستدامة، فالنظام الشمولي طوال 35 عاما من الحكم، مارس ضدها شتى أنواع العسف والظلم والقتل والتشريد والتجويع والابادة في ظل صمت دولي حيال جرائمه البشعة، وابتلى تاليا بساسة العهد الجديد طوال العقدين الماضيين، فباسم الديمقراطية حرم شعب كوردستان من حصته من الموازنة العراقية العامة منذ عام 2014، وقد عاني هذا الشعب الكثير أثر هذه الحالة غير الدستورية، خصوصا وأنه لا وجود لسلطة تفرض على بغداد الالتزام بتسديد مستحقات شعب كوردستان من الموازنة العامة، بعد أن أعادت سلطة التحالف الدولي ربط اقليم كوردستان اقتصاديا ببغداد بعد عام 2003 باعتبار العراق وطن الجميع وهو واحد لا يقبل التقسيم، بغض النظر عن نظام الحكم فيه.

ومن المفيد الاشارة الى ان اقليم كوردستان استطاع ان يقيم نظام اقتصاده المستقل بعد ان فرض النظام الشمولي نهاية عام 1991 الحصار التام على الاقليم، وقد خطى الاقليم خطوات جبارة من حيث تنظيم اقتصاده المستقل رغم قساوة الظرف الاقتصادي، حيث بلغ قيمة الدينار العراقي المتداول في كوردستان ما يعادل 250 دينار عراقي متداول في باقي المناطق العراقية الخاضعة للنظام الشمولي. وبعد قطع استحقاقات الاقليم من الموازنة العامة عام 2014، ورغم قساوة الظرف أيضا، حيث من جهة كان الاقليم يخوض حربا دفاعية ضد منظمة ارهابية في منتهى الشراسة، وهو يعيش بالتزامن مع ذلك أزمة مالية خانقة، الا ان حكمة ادارة الاقليم في التعامل مع الأزمتين المالية والأمنية، قادت الأمور بعد مخاض عسير وبشكل تدريجي الى ترتيب الاوضاع والقطاعات الاقتصادية والخدمية، وأخذ الاقليم ينظم وضعه المالي للمرّة الثانية منذ عام 1991 من خلال توظيف موارده الاقتصادية المتاحة. لكن جاء قرار ايقاف تصدير نفط اقليم كوردستان وايكال تصديره الى شركة سومو العراقية، ليدخل الاقليم للمرّة الثالثة في مأزق مالي، وبالتزامن مع ذلك وقع التزام قانوني واخلاقي وبموجب اتفاق ثنائي، بذمة السلطات العراقية الاتحادية من حيث ايفائها بالتزاماتها المالية حيال اقليم كوردستان، اسوة بباقي المناطق العراقية. وقد توصلت حكومة اقليم كوردستان بعد مفاوضات شاقة مع الحكومة الاتحادية الى صيغة تفاهمات اقتصادية يتم بموجبها التعاون والتنسيق في المجال المالي على ان تتولى حكومة بغداد تسديد مستحقات اقليم كوردستان المالية.

بعد ذلك، تم صياغة الموازنة العراقية العامة لثلاثة سنين متتالية (2023- 2025)، وقد وصل مشروع الموازنة العامة الى اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي، حيث أبلى عدد من نواب اللجنة بلاء سيئا من حيث التعاطي مع حقوق اقليم كوردستان ومستحقاته المالية التي تترتب بذمة الحكومة الاتحادية واضعين العراقيل أمام الاتفاقات الثنائية التي توصل اليها الطرفان ذات العلاقة (الاقليم وبغداد) والتي بموجبها تم تشكيل الحكومة العراقية الحالية. كل ذلك في مسعى معلن ضد الاقليم لوضع العقبات أمام مسيرته في الاعمار والتقدم، خصوصا وأن العديد من النخب السياسية العراقية تشعر بحرج كبير أمام العراقيين من أنباء مناطقهم، لفشلهم في قيادة العميلة السياسية بالشكل الذي يفضى الى الاعمار والنموّ ويضع حدا للفساد المستشري في كافة مفاصل الدولة.

للديمقراطية مضارّ ومساوئ نابعة من تسيّد غير المؤهلين وتوليهم السلطة، وبذلك تتعرض مصالح الشعب للمخاطر بسبب رياح الرغبات الهوجاء لهؤلاء غير المؤهلين أو من خلال استجابتهم لاملائات مغرضة تردهم. 

 

 

 

باسنيوز

Top