• Monday, 29 April 2024
logo

إدارة الدولة وسياسة التجريب في العراق

إدارة الدولة وسياسة التجريب في العراق
يحيى الكبيسي


في ورقة الإصلاح البيضاء التي أصدرتها الحكومة العراقية في تشرين الأول 2020، أي قبل أقل من شهرين، وردت الفقرة التالية: « وعلى الرغم مما يبدو من جوانب إيجابية لخفض قيمة الدينار العراقي، والتي ترتبط بقدرة الحكومة على تسديد مدفوعات الرواتب للموظفين والمتقاعدين، إلا أنه سيؤدي لاحقا إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، وبالتالي يخفض من مستوياتها لغالبية السكان، نظرا لاعتماد البلد الكبير على الاستيرادات لتلبية الاستهلاك، وسيؤدي إلى تفاقم الضغوط على الاقتصاد غير المنظم، الذي تضرر بشدة من الصدمات الناجمة عن الإغلاق المصاحب لجائحة كورونا، وخفض الإنفاق الحكومي على النفقات الرأسمالية، وتقييد الإنفاق على السلع والخدمات، وغير ذلك، ولكن انخفاض سعر العملة سيؤدي إلى استرجاع تنافسية الاقتصاد العراقي تجاه شركائه التجاريين».
في المقابل كان واضحا أن هذه الورقة البيضاء حريصة على تبني فرضية أنّ سعر الصرف الحالي للدينار العراقي غير تنافسي، وله تأثير سلبي على المنتج المحلي، التي هي فرضية البنك الدولي، والتي وجدناها في التقرير المعنون «مذكرة اقتصادية للعراق» الذي صدر في أيلول 2020، والذي أشار إلى أن ارتفاع سعر صرف العملة العراقية قد أدى إلى أن «السلع السوقية وأكثر القطاعات الإنتاجية خسرت تنافسيتها». على الرغم من أن هذا الأمر يمكن معالجته بإجراءات حمائية حقيقية للمنتج الوطني من جهة، ورفع الضريبة على السلع المستوردة من جهة ثانية، بعيدا عن التلاعب بسعر الصرف، هذا على فرض صحة هذه الفرضية بشكل كامل، وعدم وجود عوامل موضوعية أخرى كانت السبب الرئيسي في ضعف التنافسية للمنتج المحلي، في حال القدرة على انتاجه من الأصل!

في نسخة مسربة من مشروع قانون الموازنة الاتحادية لعام 2021، وقبل أن يقرها مجلس الوزراء، تمهيدا لإرسالها إلى مجلس النواب، بدا واضحا أن الحكومة العراقية/ وزارة المالية، قد تبنت فكرة خفض سعر صرف الدينار العراقي دون وضع أي إجراءات تمنع حدوث السلبيات التي تحدثت عنها الورقة البيضاء! بل على العكس، ففضلا عن تخفيض قيمة العملة الرسمي بنسبة 21.8 قياسا إلى الدولار (من 1190 دينارا مقابل الدولار الواحد وهو سعر التصريف المعتمد لدى البنك المركزي العراقي، إلى 1450 دينارا مقابل الدولار الواحد) وهو ما يعني خفض القيمة الحقيقية للرواتب بالنسبة ذاتها، فقد اعتمدت مشروع الموازنة المقترح تخفيض كافة المخصصات الممنوحة للموظفين بنسب كبيرة، إذ خُفضت المخصصات المقطوعة بنسبة 40٪، ومخصصات الخطورة والشهادة بنسبة 50٪، والمخصّصات الخاصة، ومخصّصات الخدمة الجامعية بنسبة 60٪، وهو ما يعني عمليا تخفيض رواتب الفئات التي تحصل على هذه المخصصات بنسبة تتجاوز 50٪ من مجموع الراتب!
إن مراجعة الأرقام التي وردت في مشروع القانون المسرب، تشير إلى أن الواردات النفطية ستكون 50.3 مليار دولار، وهي تشكل 79.4٪ من وارادات الموازنة التي بلغت 63.3 مليار دولار. وقد حسبت بالدينار العراقي على أساس سعر الصرف الجديد المقترح (1450 دينار مقابل الدولار). ولكن المفارقة أن هذا الرقم يقوم على افتراض أن معدل تصدير النفط الخام هو 3.25 مليون برميل يوميا، وعلى أساس سعر 42 دولار للبرميل الواحد. وهذا يعني عمليا أن العراق في موازنته المقترحة قد قرر عدم الالتزام باتفاق (أوبك +) الذي جرى في نيسان/ أبريل 2020، والذي قضى بخفض انتاج المنظمة والدول الأخرى المصدرة للنفط من أجل وقف تدهور أسعار النفط، وبموجب هذا الاتفاق التزم العراق طوال الأشهر الماضية بسقف تصدير يتراوح بين 2.6 و 2.8 مليون برميل يوميا! مع أن جميع المؤشرات تذهب إلى ان أسعار النفط لن تبدأ بالتحسن قبل النصف الثاني من 2021، وهذا يعني سقف الإنتاج الذي اعتمدته اتفاقية (أوبك +) سيبقى ضمن المعدل نفسه خلال هذه المدة!
كما أن مراجعة مشروع الموازنة المقترح يشير إلى أن العجز الكلي فيها يزيد عن 40.18 مليار دولار، من قسمة الموازن الكلي الذي بلغ 103.4 مليار دولار، وأنه في حالة استبعاد كافة المتأخرات والمديونية وفوائد القروض الأجنبية والمحلية، فإن هذا العجز ينخفض إلى 24.15 مليار دولار، ويراد تغطية هذا العجز، من زيادة أسعار النفط الخام المصدر المفترضة، أو زيادة صادرات النفط الخام المفترضة، أو الاقتراض الخارجي والداخلي! على الرغم من أن مديونية العراق في الوقت الحالي تجاوزت نسبة 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مع ما ينطوي على ذلك من مخاطر اقتصادية، لهذا وجدنا مشروع القانون يتحدث عن تخويل وزير المالية بالاقتراض من المؤسسات المالية الدولية دون أية محددات! في تناقض مع ما جاء في ورقة الإصلاح البيضاء التي أشارت إلى « أن تراكم الديون المضافة إلى الديون السابقة غير المسددة، يؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنات المستقبلية، وكذلك زيادة العجز المستقبلي فيها، مما يزيد في نهاية المطاف من الدين الحكومي، وكذلك فان تراكم ديون شركات النفط العالمية سيؤدي إلى انخفاض في الإنتاج، مما يحد من الإيرادات المستقبلية ويزيد العجز في الموازنة، في حين تؤدي الديون المستحقة للقطاع الخاص إلى زيادة الإعسار وقلة فرص العمل، حيث يؤثر ارتفاع القروض غير المسددة سلبا على قدرة البنوك على الإقراض، ويضخم ذلك بدوره الضغوطات على الاقتصاد المحلي».
الملاحظة الأخيرة على مشروع القانون المسرّب هو التعامل للمرة الثانية، وبشكل صريح، وبوثيقة رسمية، هو الإطاحة الكاملة باستقلالية البنك المركزي العراقي، وهي الاستقلالية التي أقرها الدستور، وأقرها قانون البنك نفسه! فبعد أن قرأنا في ورقة الإصلاح البيضاء أن تمويل العجز عبر التمويل النقدي غير المباشر من الاحتياطي النقدي للبنك المركزي العراقي «هو المصدر الوحيد المتبقي»! تأتي الإشارات الصريحة الثانية لتتحدث عن البنك بوصفه مجرد جهة تابعة للحكومة وسياساتها المالية، وأن لا فصل بين السياسة المالية للحكومة، والسياسة النقدية للبنك المركزي العراقي! فسعر الصرف تحدده الحكومة/ وزارة المالية وليس البنك المركزي، البنك المركزي عليه أن يلتزم بما تفرضه عليه الحكومة/ وزارة المالية من سياسات تتعلق بالسندات والحوالات، وصولا إلى إشارة صريحة إلى تحويله إلى ممول مباشر للمشاريع «التي تحمل سقوف النجاح وذات جدوى اقتصادية في الإقليم والمحافظات»!
في مناسبة سابقة اقترحنا فكرة اللجوء إلى تجربة الادخار القسري، عبر تشريع قانون يتيح للحكومة تسديد 50٪ فقط من قيمة رواتب الموظفين والمتقاعدين، على أن لا يقل الراتب عن 500 ألف دينار عراقي بأي حال من الاحوال، مع توزيع (سندات لحاملها) بالمبالغ المدخرة بقيمة 100 ألف دينار للسند الواحد، وبفائدة 3٪ سنويا. وبذلك لن تضطر الحكومة إلى تغيير سعر الصرف من جهة، أو تخفيض الرواتب من جهة ثانية، او اللجوء إلى الاقتراض الخارجي أو المحلي من جهة ثالثة، وهي الحلول الثلاثة التي لجأت اليها الحكومة/ وزارة المالية في مشروع قانون الموازنة المقترح. وفي الوقت نفسه تجنب المشكلات الناتجة عن هذا التجريب في إدارة الدولة!









باسنيوز
Top