• Wednesday, 08 May 2024
logo

ما هي طبيعة الأزمة الراهنة في اقتصاد إقليم كردستان العراق؟

ما هي طبيعة الأزمة الراهنة في اقتصاد إقليم كردستان العراق؟
لم يبخل اقتصاديو العراق الديمقراطيون والتقدميون على امتداد العقود المنصرمة في تسليط الأضواء الكاشفة على طبيعة الاقتصاد العراقي وعلى طبيعة اقتصاد إقليم كردستان العراق، باعتبار جزءاً من الاقتصاد العراقي، سوا أكان ذلك في فترات الحكم المركزي العراقي أم في مرحلة الحكم الذاتي أم منذ إعلان الفيدرالية بالإقليم حتى الوقت الحاضر. كما لم أبخل بنقد السياسات الاقتصادية والاجتماعية على امتداد العقود الخمسة المنصرمة حتى الوقت الحاضر. ولم ينطلق هذا النقد من رغبة جامحة في النقد، بل انطلقت وما تزال من مواقع الحرص والمسؤولة عن سلامة الاقتصاد العراقي وسلامة اقتصاد الإقليم. فالاقتصاد العراقي، واقتصاد الإقليم جزءاً منه، يعتبر اقتصاداً ريعياً نفطياً بامتياز، وفي ذات الوقت اقتصاداً استهلاكياً خدمياً وغير إنتاجي. ولهذا يعتمد على الاستيراد السلعي لإشباع حاجات سكانه. وكلما طالب الاقتصاديون بضرورة تغيير هذه الحالة المشوهة والمتخلفة والمكشوفة على الخارج، واجهوا أذاناً غير صاغية ولا تريد أن ترى الواقع ولا تريد أن تجري أي تغيير في الطابع العام والسلبي للاقتصاد العراقي، وتسعى لإسكات الأصوات المطالبة بالتغيير.
والشيء الثابت إن الاقتصاد العراقي قد واجه أزمات حادة وفي فترات مختلفة دون أن يتعلم منها المسؤولون عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية على امتداد العقود المنصرمة حتى الوقت الحاضر. ولهذا فهم المسؤولون عما يعاني منه الاقتصاد العراقي والمجتمع عموماً واقتصاد ومجتمع كردستان العراق خصوصاً. فعلى مستوى العراق واجه المسؤولون أنواع مختلفة من الضغوط منذ ثورة تموز 1958 وفترات الحصار على الإقليم والحروب ضده، ومن ثم الحصار الاقتصادي الدولي الشامل والمضاعف على الإقليم الذي فرضه النظام الفاشي الصدامي في حينها. وها نحن اليوم أمام أزمة جديدة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم حيث يواجه الإقليم تراجعاً شديداً وكبيراً في السيولة النقدية بسبب الموقف غير العقلاني وغير الحكيم والسيئ، اياً كان السبب، من جانب الحكومة الاتحادية.
إن الاقتصاد الريعي لا يخلق إشكاليات محتملة مع الخارج بسبب التخلف والتشوه والتطور الوحيد الجانب والانكشاف على الخارج بسبب الاستيراد السلعي الواسع النطاق فحسب، بل يواجه هيمنة من جانب الدولة على الموارد المالية المتأتية من تصدير النفط الخام والتحكم به وسبل توزيعه واستخدامه من جهة، وبروز وجهة تسلطية شمولية لدى النخب الحاكمة التي تقود إلى انفصال تام بين المجتمع والسلطة وتكون النخب الرثة الحاكمة، ومن بروز القطط السمان التي تعتاش على موارد البلاد المالية وتغتني على حساب الشعب العراقي وتغيب العدالة الاجتماعية والتوزيع العقلاني للثروة والخدمات عن المجتمع. وهي تكون في الغالب الأعم مناهضة لعملية التنمية والتصنيع وتطوير الزراعة والتثمير الإنتاجي والتشغيل في المنشآت الإنتاجية وتطوير البنى التحتية، بل يبقى همها الأساسي هو الاغتناء من خلال المضاربات المالية والسمسرة العقارية والفساد المالي عبر العقود وغيرها والبذخ والتفريط بالمال العام ...الخ. هذا ما كان عليه العراق خلال العقود الخمسة الأخيرة وآخذ بالتفاقم والجموح في المرحلة الراهنة.
إن تجارب الشعوب تؤكد بأن الخلاص من المشكلات التي تواجه البلاد ذات الاقتصاد الريعي يمر عبر التنمية الاقتصادية والتنويع في القطاعات الاقتصادية الإنتاجية والاستثمار الرأسمالي الحكومي والخاص في عملية التنمية والتشغيل الإنتاجي، وهي ضمانة كبيرة لتنمية الثروة الوطنية وتقليص احتمال الأزمات التي يمكن أن تمر بها البلاد. والسؤال هو: هل سيتعلم المسؤولون من هذه التجربة الجديدة القاسية؟ الأيام وحدها قادرة على الإجابة عن هذا السؤال ودور الشعب بالضغط بهذا الاتجاه!
إن الأزمة المالية الراهنة هي بالأساس أزمة سياسية بامتياز، وهي محاولة لتجويع الشعب في الإقليم من جهة وتركيع رئاسة وحكومة إقليم كردستان العراق من جهة أخرى، وتهميش دورهما في السياسة العراقية وفي الحياة الاقتصادية العراقية، وهو ما يجري أيضاً مع محافظات العراق الأخرى التي همشت وما تزال تهمش من جانب رئيس الحكومة الاتحادية نوري المالكي. ولهذا ينبغي إفشال هذه السياسة المستبدة والوصول إلى حلول عقلانية للخلافات القائمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم حول اقتصاد النفط الاستخراجي أو المسائل الأخرى المعلقة حتى الآن والتي لم تصدر بها قوانين تستند إلى النصوص الدستورية في دستور 2005. والاختلاف القائم حالياً ليس غريباً، ولكن الغريب استخدام أساليب ردعية وليس عبر المفاوضات. إن عدم إقرار الميزانية هي الذريعة التي يتذرع بها القائد العام للقوات المسلحة بعدم دفع حصة الإقليم منها. من المعروف إن حصة الإقليم من الميزانية الاعتيادية تبلغ 17% من حيث المبدأ ولكن الإقليم يشكو من إن هذه الحصة لا تدفع ولا تصل إلى الإقليم إلا بنسبة 10% فقط. وهو أمر بحاجة إلى معالجة جادة من الحكومة القادمة التي يفترض أن لا يترأسها من تسبب بكل الأزمات السياسية السابقة والجارية حتى الآن. ولا يمكن للحكومة الاتحادية بهذا الإجراء غير الحكيم وغير المتوقع، الذي فوجئت به حكومة الإقليم، زيادة الضغط عليها ضمن سياسة نوري المالكي لدفع حكومة الإقليم إلى اتخاذ إجراءات خاطئة تضعها وكأنها في موقع الضد من الشعب العراقي ومن ثم احتمال تجييش القوات العراقية ضد الإقليم في فترة لاحقة بذريعة محاولة انفصال الإقليم عن العراق والادعاء بأن أي تصويت بالاستقلال ينبغي أن يوافق عليه أكثرية الشعب العراق وليس الشعب الكردي وحده! إن الاستقرار والأمن السائدين بالإقليم يريد له نوري المالكي أن يتزعزع من خلال تجويع الشعب بالإقليم وإثارة التذمر والمظاهرات والانفلات الأمني. واعتقد إن الشعب الكردي يمتلك من الحصافة ما يمنع وقوع مثل هذه الحالة السائدة في محافظات عراقية أخرى.
إن ما يزيد من المصاعب المالية وضعف السيولة النقدية بإقليم كردستان العراق يبرز في تلك الآلاف المؤلفة من اللاجئين السوريين إلى إقليم كردستان وكذلك عشرات الألوف من العراقيين العرب من شيعة وسنة، إضافة إلى النزوح الجاري لجمهرة كبيرة جداً من أهالي الفلوجة وسامراء والموصل الذين يجدون بالإقليم مأوى آمناً لهم بعد المجازر الجارية في هذه المناطق والمعارك الجارية بين قوى الإرهاب والقوات الحكومية ومشاركة قوى أخرى طائفية مسلحة مثل عصائب الحق المجرمة التي تهاجم السكان العزل بسبب كونهم من أتباع المذهب السني. وهذه الجماهير اللاجئة والمستغيثة بحاجة إلى مساعدات مالية وعينية لا يستطيع إقليم كردستان لوحده تحملها ولفترة طويلة.
إن الذي يواجه المصاعب في المرحلة الراهن هو الشعب الكردي وبقية سكان الإقليم من قوميات أخرى. ولا بد من خوض النضال ضد هذا الإجراء السيئ والعقوبة الجماعية التي يمارسها نظام الحكم الطائفي بالعراق ضد الشعب الكردي وتذكرنا بسياسات صدام حسين العدوانية. وعلينا أن ننتبه إلى أن النظام العراقي من الممكن أن يتجنب الأزمة السياسية الراهنة ورفض المالكي لتسليم السلطة لغيره في أنه وبذريعة وجود قوى الإرهاب في الموصل والفلوجة والأنبار وسامراء وغيرها إلى إعلان حالة الطوارئ (الأحكام العرفي) بالبلاد، وسيجد التأييد من حكومة إيران وستدعمه فعليا.
كلنا يعرف بأن إقليم كردستان العراق محاط بقوى لا يؤتمن جانبها وغير صديقة له وهمها مصالحها وليس مصالح الشعب الكردي، وبالتالي لا يمكن الاعتماد على إيران ولا على تركيا، وبالتالي فأن وضع أمر تصدير النفط الخام من الإقليم في السلة التركية غير مضمون العواقب بأي حال ومن الممكن أن تجد الحكومة الاتحادية بإغراءات مالية وعقود ضخمة طريقاً لإقناع تركيا بالكف عن التعاون مع حكومة الإقليم نفطياً رغم التوقيع عل اتفاقية مع رئيس حكومة الإقليم والمشاريع الضخمة التي تنفذها تركيا بالإقليم، ولكن الإقليم لا يستطيع معاقبة تركيا بإيقاف تلك المشاريع بأي حال في حالة إيقاف العمل بتلك الاتفاقية. كما إن الولايات المتحدة رغم سعيها للمحافظة على علاقات طيبة مع الإقليم، ولكنها لن تضحي بأي حال بعلاقاتها المطلوبة مع الحكومة العراقية لأسباب عدة منها الخشية في سقوط إيران الكامل والنهائي في أحضان إيران مثلاً، كما هو حال سوريا.
كيف تواجه كردستان هذه الأزمة المالية الراهنة؟
إن رئيس الوزراء الاتحادي بعدم إيصال حصة الإقليم من الميزانية قد وضع حكومة الإقليم أمام أحد أمر واحد في مجال نقل وتسويق النفط، أمام تصدير النفط عبر تركيا لكي تستطيع بها سد جزء مهم من النقص المالي في ميزانية الإقليم، إضافة إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات الراهنة والمستعجلة، وأهمها:
1. استخدام الاحتياطي من العملة الصعبة المتوفرة في خزينة الإقليم والتي لا علم لي بحجمها لمواجهة الأزمة المالية الراهنة.
2. تقليص استيرادات الإقليم من السلع الاستهلاكية والكمالية وتجنب إغراق الأسواق المحلية بالسلع المستوردة، كما عليه الحال حتى الآن. إذ إن حجم الاستيراد حتى الفترة الأخيرة كان فاحشاً وكلف خزينة الإقليم موارد مالية كبيرة. وقد كان الاستيراد فوضوياً حقاً ومسيئاً للاقتصاد الكردستاني وأموال الإقليم.
3. تقليص مصروفات الدوائر الحكومية والبذخ الذي عرفته حتى قبل فترة قصيرة، إضافة لما اتخذ حتى الآن من إجراءات مهمة.
4. العمل على تقديم تسهيلات وامتيازات مناسبة لجلب رؤوس الأموال العراقية، ومنها أصحاب الأموال الكرد بالخارج لتوظيف رؤوس أموالهم بالداخل.
5. العمل على الاستدانة المؤقتة من أصحاب رؤوس الأموال الكرد أو العراقيين عموماً بفوائد مناسبة ومشجعة على الإقراض الذي سوف لن يدوم طويلاً.
6. طلب قروض دولية ومن بلدان صديقة لمواجهة الأزمة المالية الراهنة بما يساعد على تجنب نشوء مشكلات اجتماعية معقدة.
7. ولا أجد في الوقت الحاضر أي مبرر لإصدار عملة خاصة بالإقليم كما اقترح البعض في فترة سابقة.
8. وأجد مناسباً جداً القيام بحملة واسعة ومكثفة ستجد التأييد من جانب الشعب بالإقليم لمواجهة الفساد والمفسدين وإجبارهم على دفع ما نهبوه وبطرق مختلفة إلى خزينة الإقليم، وهي دون شك مبالغ طائلة خلال السنوات التي أعقبت سقوط الدكتاتورية.
وبما إن هذه الأزمة المالية بالإقليم هي أزمة سياسية ذات صنع محلي عراقي، وعليه يتطلب الأمر مجموعة من الإجراءات السياسية المهمة في المرحلة الراهنة:
1. تعزيز وحدة الصف الكردستاني، بغض النظر عن فات الجوهرية السابقة والراهنة التي لا يعني السكوت الدائم عنها، بما في ذلك وجهة ومضمون السياسة الاقتصادية والاجتماعية وغياب مشاريع التنمية الصناعية التحويلية والزراعة الحديثة وإغراق دوائر الإقليم بموظفين خلقت أوسع بطالة مقنعة، بل معالجتها بطريقة تسمح بمواجهة سياسة المالكي الراهنة.
2. ممارسة أوسع العلاقات الممكنة مع بقية أطراف القوى السياسية لمواجهة الوضع الراهن وفرض دفع حصة الإقليم والدخول بمباحثات لمعالجة المشكلات القائمة.
3. كما يتطلب الأمر خوض نضال سياسي بتنظيم حملات احتجاج شعبية ضد سياسة التجويع والغدر والتهديد لدفع حصة الإقليم من الميزانية الاعتيادية بالرغم من عدم إقرارها لا كما قرر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء بعدم دفعها كما قال وزير المالية العراقي لرئيس حكومة الإقليم في آخر لقاء لهما ببغداد. إن هذا الموقف سيعزز التلاحم النضالي بين العرب والكرد وبقية القوميات إلى سابق عهده، والذي تزعزع كثيراً منذ سقوط الدكتاتورية حتى الآن.
4. واقترح تقديم دعوى إلى المحكمة الاتحادية بشأن عدم دفع حصة الإقليم من الميزانية الاتحادية، برغم تأثيرات السلطة التنفيذية على السلطة القضائية التي كانت واضحة ومفضوحة جداً خلال السنوات الثماني المنصرمة.
5. ومن الممكن أن يدرس خبراء القانون ما إذا كان ممكناً رفع دعوى قضائية ضد الحكومة الاتحادية في محكمة حقوق الإنسان لأن هذا الإجراء يعرض حياة الناس إلى مخاطر التجويع ومخالف للقانون الدولي.
6. إن الحل العملي لمواجهة مثل هذه السياسات الاتحادية الرعناء وما ينشا عنها من ردود فعل من طرف الإقليم أو المحافظات هو إقامة حكومة إنقاذ وطني بالعراق تستلهم مبادئ الوطن والمواطنة ومصالح الشعب ووحدة مكوناته القومية وتماسك الدولة الهشة الراهنة ووضعها على سكة الدستور والقوانين الديمقراطية.
Top