• Tuesday, 07 May 2024
logo

كوردستان.. ملف السياسة الإقتصادية

كوردستان.. ملف السياسة الإقتصادية
مع مطلع القرن الحالي تبدلت مفاهيم كثيرة عن القدرات الصلبة (Hard Power) للدول حيث يتوقع الخبراء أن تتبوأ القدرات الإقتصادية (Economic Power) للدول تدريجيا محل الصدارة بدل القدرات العسكرية (Military Power) بنهاية القرن ذاته. كما أصبح التنوع الإقتصادي (Diversification) لإيرادات الدول من حتميات القرن الحادي والعشرين بعد تفاقم تحديات تناقص الموارد الطبيعية والزياة السكانية العالمية (كولان 813). وقد يفسر ذلك ما تتعرض له الدول حاليا والتي تعتمد كليا على مصدر أو إيراد واحد (Mono Revenue) من صدمات سياسية قد تفوق قدراتها الذاتية في التعامل مع التداعيات الإجتماعية-الإقتصادية لما بعد الصدمات. وأبرز مثال على ذلك هي الصدمة الحالية بعد الهبوط الحاد لأسعار النفط مما ادى الى عجز متفاقم لميزانيات دول المصدرة للنفط وبضمنها العراق وإقليم كوردستان والمعتمدة بشكل شبه تام على واردات النفط. فرغم أن صادرات العراق حسب بيانات وزارة النفط العراقية قد زاددت في ديسمبر الماضي الى معدلات قياسية لم تسجل منذ 1980 حيث بلغت 2.94 مليون برميل يوميا مقارنة مع 2.51 مليون برميل يوميا في نوفمبر وبمجموع كلي بلغ 91.141 مليون برميل في ديسمبر مقارنة مع 57.300 مليون برميل في نوفمبر إلا أن الواردات لشهر ديسمبر (5.274 مليار دولار) لم تسجل زيادة ملحوظة تذكر مقارنة مع واردات النفط لشهر نوفمبر والبالغة 4.618 مليار دولار وذلك بسبب هبوط سعر النفط الى 57 دولار للبرميل حينها. وقد أدى هذا الإنخفاض الى فقدان 27% من العائد المتوقع للسنة الماضية. علما أن خطة العراق ل 2015 هو في تصدير 3.2 مليون برميل يوميا مما قد يتسبب في مشاكل مع منظمة أوبك.
تبين المؤشرات الإحصائية الحالية حول مدى تحمل الدول المصدرة للنفط للحد الأدنى من سعر النفط للبرميل الواحد وذلك لكي تتمكن من الأيفاء بموازنة مقبولة ما بين حجم المدخولات وحجم المصاريف بأن العراق يحتاج الى سعر لا يقل عن 115 دولار للبرميل الواحد. والمؤشرات الإقتصادية تشير الى طول الأزمة حيث يتوقع وزير المالية السابق في روسيا أليكس كوردن في دراسة تحليلية بأن فترة السعر الهابط للنفط العالمي قد يستمر 15 عاما. وفي الجانب الآخر من الأزمة ورغم أن الإستهلاك العالمي للطاقة سيزداد من معدله الحالي البلغ 12.5 ترليون واط الى 16.9 ترليون واط بحلول 2030 (كولان 829) فإن الطلب العالمي على النفط لا يبشر بسيادة الطاقة الهايدروكاربونية على مجمل التنمية الإقتصادية في العقود القادمة. فإستهلاك أميركا الشمالية من النفط هو في تناقص مستمر منذ سنة 2000. إضافة الى أن كلا من إزدياد إنتاج المركبات التي تعمل بالطاقة الكهربائية وإزدياد الطلب على الغاز الطبيعي وبدائل الطاقة الأخرى باتت ترسم ملامح واقع جديد بدأت تفرض نفسها وإن كان ببطء على سوق النفط في أميركا الشمالية. وكذا الحال بالنسبة لسوق النفط في أوربا وإن كان إنخفاض الطلب الأوربي على النفط هو بمجمله تحصيل حاصل وسط الإنكماش الإقتصادي الحالي فعلى سبيل المثال فإن النمو الإقتصادي لفرنسا يكاد أن يقترب من الصفر.
وفي قراءة أولية لمحصلة أزمة بهذا القدر من التعقيد علينا الإقرار بضرورة بلورة رؤية إقتصادية لإقليم كوردستان والذي لا زال أسير القوالب الإشتراكية والتي وضعت حكومات الأقليم المتعاقبة تحت مسؤوليات وإلتزامات لا حصرى لها مما أنهك الميزانية. يضاف الى ذلك التضخم في الكادر الوظيفي في القطاع العام والذي يستنزف عائدات من الميزانية بجانب عدم الإنتاجية مما أدى الى هدر كبير وتضخم في الإنفاق العام في الموازنة التشغيلية. ومما لاشك فيه بأن كوردستان قد خطت بعض الخطوات المهمة في مجال تفعيل القطاع الخاص في التنمية الاقتصادية الوطنية واذا ما احسن العمل في الموازنة التشغيلية وتم فض الانفاق الاستهلاكي الحكومي فهنالك امكانات كثيرة يمكن تسخيرها في البنية التحتية وبيئة الأعمال المطلوبة لعملية التنمية الإقتصادية لا سيما في ظل التوجهات الاقتصادية الجديدة في التحول نحو اقتصاد السوق. كما تستدعي المرحلة المقبلة تحديد الأوليات ومن بينها تطوير القطاع الخاص وسحب الحكومة يدها تدريجيا من قطاع الزراعة والصناعة والسياحة الى القطاع الخاص، ولا يتم ذلك الا من خلال تشريعات تتلائم مع التوجهات الحالية لإقتصاد السوق والمتزامنة مع الاستتباب النسبي للأمن. وأي توسيع لمصادر الدخل في كوردستان والذي بات إقتصاده الريعي الحالي حبيس أحادية شديدة للإقتصاد (Mono Revenue)) وباعتماده أساسا على الواردات النفطية الغير مستقرة عالميا يجب أن يتجه ذلك التنويع المقترح الى تطوير قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة ذات العلاقة إضافة الى تطوير السياحة الى ما يسمى بصناعة السياحة (كولان 813 834-835 932 ). كما تقتضي إستراتيجية تنمية القطاع الخاص إقرار قوانين وتشريعات للتعامل مع ثلاثية محاور الإنتاج والتجارة وحقوق المستهلك وبديباجة عملية تتناسب وروح عصر العولمة. وحين إعداد هذه التشريعات ولتفادي أية صدمات إجتماعية من جراء هذه التشريعات علينا مراعاة العامل الإجتماعي-الإقتصادي (socio-economy) إضافة الى معايير حماية البيئة في كوردستان (كولان 823 834-835 877). وضمن هذا التوجه فقد قام إتحاد غرف التجارة والصناعة في كوردستان بإرسال ورقة عمل تضمنت 7 مقترحات إستراتيجية من أجل تطوير القطاع الخاص الى برلمان كوردستان وذلك لغرض تحديد الأدوار في الشراكة المرتقبة ما بين القطاع العام والخاص (Public-Private Partenership) ومن أجل أخذ دوره المرتقب في التنمية الإقتصادية في الإقليم.
كوردستان هي أحد أغنى البقع الجغرافية على خارطة الشرق الأوسط. والطموح يقتضي إدارة هذا الغنى بتوازن لديمومة رأس المال الطبيعي مع تلبية حاجات المواطن وبما يحفظ له الكرامة قبل كل شيء. إلا أن هنالك حاجة ماسة لتبني سياسة للأستثمار في المواطن وإعداده كعامل بناء وليس كعامل إستهلاك وإستنزاف للموارد الطبيعية. وتتجلى ملامح الحالة الأقتصادية في إقليم كوردستان وكذا الحال مع العراق بما يمكن من تسميته بالأقتصاد الأحادي المورد وبما يعانيه من كونه راكدا (static) وذلك لضعف دورة رأس المال المحلي في تحريك عجلة الأقتصاد وإستنزافه الدائم نحو الخارج. والجدير بالذكر أن هذا الواقع الأقتصادي المعتمد كليا على تصدير مادة الخام من نفط أو أية موارد طبيعية أخرى ودون خلق القيم المضافة لها (added values) قد دفع بعملية التجارة الى حصره للوقوع في دائرة الأستيراد المفرط دون تنمية مصادر التصدير الأخرى من صناعات نفطية أو زراعية أو صناعات غذائية أو سياحية. ومن أكبر التحديات التي تواجه إقتصاديات الدول المعتمدة على تصدير النفط الخام مثل كوردستان هو في عدم قدرتها على مجاراة الصعود السريع لأسعار المواد الغذائية في العالم (كولان 829). ويقتضي الحال هنا في كوردستان تطوير أساليب الزراعة الحالية والتي يغلب عليها الطابع الإقتصاد المعيشي (Subsistence economy) الى زراعة حديثة (Modern Farming) ذو إنتاجية ومردود مالي فيما يعرف (More crops per drop) وذلك للمساهمة في التنمية الإقتصادية (كولان 560 799 813). ويحتم ذلك أيضا إحداث القيم المضافة (Added Values) للمنتوج الزراعي الخام من خلال صناعات غذائية واعدة في كوردستان. ولعل في مقدمة الصناعات المرتقبة هي الصناعات القطنية والصوفية وصناعة الجلود وصناعة اللحوم البيضاء والحمراء وصناعة الزيوت النباتية وصناعة العصير وتعليب الفواكه والصناعات الغذائية للأطفال (كولان 813). وفي هذا السياق يستلزم الأمر الحفاظ على الهوية الثقافية لكوردستان والمتمثلة في المحافظة على القدرات المهنية واليدوية والفلكلورية وضمن مفهوم الأعمال الصغيرة والتي هي حصيلة قرون من الحياة الإجتماعية-الإقتصادية لسكان الإقليم (كولان 848). ولعل في تجربة المجتمعات الزراعية والرعوية الإسكندنافية خير مثال لهذه النهضة الصناعية الخفيفة والمعتمدة أساسا على الأنتاج الزراعي في خلق الرفاهية.
بادىء ذي بدأ يجب عدم التركيزعلى زيادة العرض في الخدمات الأساسية التي تتحمل نفقاتها الدولة ولكن التركيز على التخفيف من الطلب والألتزام بترشيد الأستهلاك عموما. ويحتم ذلك إصلاح البنية التحتية في كوردستان والتي تسهم في هدر كبير للموارد الطبيعية . وآن الأوان لتفعيل جباية الإقليم وكذا مستحقات والديون الواقعة على ذمة دوائر الإقليم من مستحقات وصولات الكهرباء والماء وبعض الضرائب المستوفاة. كما أن المرحلة تحتم إعادة النظر في زيادة بعض الرسومات خاصة في مجال الكماليات دون الضروريات والمستوردة الى كوردستان. ويستلزم الأمر أيضا إعادة النظر في إيجار الملكيات العامة للبلديات والمالية في الإقليم. إضافة للتعامل الجدي مع مشاكل الملكية الزراعية التي بدأت تداعى أمام موجة التمليك للأرض الزراعية لأغراض غير إنتاجية. فالأرض الزراعية (Green Lands) هي ملك صرف للأمة وحقوق إستغلالها هي لمن يزرعها فقط وهذا هو العرف القانوني في جميع الدول (كولان 813). كما أن الحاجة تدعوا الآن لمراجعة بعض القوانين ذات العلاقة بإيرادات الدولة في الإقليم بغية إجراء بعض التعديلات اللازمة وذلك لزيادة وتنويع مصادر الإيرادات مثال على ذلك تعديل الفقرة في قانون الإستثمار والتي تعطي الحق للشركات الأجنبية العاملة في كوردستان من التأمين لدى شركات التأمين خارج الإقليم وإيقاف المال المهدور الى الخارج. كما يحق لإقليم كوردستان إلزام الشركات الأجنبية العاملة لديها بتعيين نسبة من الكادر الوظيفي والعمالة الماهرة من سكان الإقليم. إضافة الى إلزام هذه الشركات بالمساهمة في تكاليف حماية وصيانة معالم البيئة في كوردستان. وآن الأوان لتشريعات مناسبة لتحديد المسؤوليات الإجتماعية (Social Responsilbilties) والمعمول بها في معظم الدول المتقدمة للقطاع الخاص المحلي والأجنبي معا (كولان 932). ويمكن التنسيق في هذا المجال مع مكاتب الأمم المتحدة ذات العلاقة في الإقليم. وبناء عليه يمكن مساهمة القطاع الخاص بعد تهيئة بيئة الأعمال المناسبة له في التعامل مع الكثير من المشاكل الإجتماعية-الإقتصادية كمشكلة البطالة في الإقليم وتخفيف الضغط الحاصل على الحكومة لتأمين الوظائف للخريجيين الجدد.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو عن الأجتهادات والممارسات الحالية للمشاريع القائمة وهل تمثل إستخدامات كفوءة لموارد كوردستان على المدى البعيد؟ فأمن الغذائي والمائي وكذا أمن الطاقة والجدوى الأقتصادية لمسار أستثمار عائداته يرتبط اساسا بالعملية الديمقراطية والتنموية في الأقليم. وبدون تنمية متوازنة ستبدو العملية الديقراطية عاجزة لدعم الأستقرار الأقتصادي (كولان 907). فواقع الحال في كوردستان يستدعي من رئاسة الإقليم صياغة سياسة إقتصادية قابلة للترجمة من قبل الحكومات المتعاقبة الى إستراتيجيات وخطط تنموية. ولعل في أزمة أسعار النفط الحالية مبرر قوي لخلق بدائل إقتصادية تتوافق مع الهوية الثقافية لسكان كوردستان وتؤمن موارد إضافية لميزانية الإقليم. والضرورة تحتم أيضا بلورة صيغة سياسية للإقتصاد (Economic Policy) مناسبة للترويج لعملية التجارة بشقيها التصديري والإستيرادي وبما يضمن عملية التكامل الأقتصادي مع دول الجوار. فمما لا شك فيه فإن تراكم ودوران راس المال المحلي سيساعم في مشاركة أكبر قدر ممكن من العمالة الشابة المحلية من الأستفادة من هذا الأغتناء التنموي للعامل الأجتماعي- الأقتصادي كلا في مجتمعات الريف والمدينة ويمهد الطريق الى المحافظة على بنية البيئة المهددة في كوردستان وبذا يمكن أن تتحقق معادلة التنمية المستدامة ونحو الهدف الأستراتيجي في الأستقرار الأقتصادي (كولان 932).
مستشار أقدم في التنمية المستدامة
Top