• Monday, 06 May 2024
logo

كوردستان: ملف الديمقراطية وفلسفة الدولة

كوردستان: ملف الديمقراطية وفلسفة الدولة
في رائعته "Democracy: A History" كتب John Dunn عن مثالب الديمقراطية وتحدياتها كون القوة السياسية التي تكمن في الديمقراطية ككلمة ليست ضمانة على قوتها الفكرية كفكرة وأن ما فيها من قوة سياسية لايشكل معجزة دائمة. وقد ذهب المعلم الأول في الغرب إفلاطون أبعد من ذلك حين لم يخفي تحفظه على قوتها الفكرية "كفكرة قبيحة" وإمكانية الفوضى الكامنة في تطبيقاتها ذلك أنها منحت الفقير سلطة وقربت الى الناس من غلبت عليه التفاهة وعدم الخجل. هذا بينما ركز تلميذه أرسطو على ترسيخ الفكرة الى قوة سياسية تتمثل في بوليتيا (Politeia) أو بعبارة أخرى "الحكم الدستوري" والمعتمدة الى حد بعيد على التنظيم المؤسساتي للسلطة ونتائج تقسيم المسؤوليات ضمن هذه السلطة. والمقارنة هنا مابين أصلها الإغريقي "ديمقراطية – حكم الشعب حيث القوة في أيدي ال "ديموس- أولئك العامة غير النبلاء" وأية ديمقراطية حديثة بل ما بين تجربة روما في الديمقراطية والجمهورية الفرنسية وكذا الأمريكية توحي بالتوق الدائم للفرد في مجتمعه الى الكرامة. والذي يمكن إجماله حسب قول John Dunn : الكفاح الرامي الى تحسين الظروف العملية للحياة والهروب من الإكراه والتعسف بل التصميم والتوق الى المعاملة باحترام وبقدر من الإعتبار. إلا أن ما يجعل الدولة دولة هو العقد الإجتماعي الذي رسم ملامحه جان جاك روسو وذلك بتنازل الأفراد عن حقهم في ممارسة السلطة (القوة السياسية) لنخبة معينة مقابل حقوق أفراد متفق عليها والمعاملة باحترام وبقدر من الإعتبار. وفوق هذا وذاك وبما يضمن العدالة السياسية من خلال سماع صوت عامة الناس أو ما عرف سابقا بعوام أثينا (Demos) وفي روما (Populous) وفي عصر الحداثة (Public). ولم يقيض للديمقراطية (Democracy) أو حكم الشعب إلا في أواخر القرن الثامن عشر مع إقتراب الثورة الفرنسية والتي خلالها وبسببها أن تتحول الى أسم يمثل قوة (Democrat) أي الفرد المناصر للديمقراطية. وسرعان ما سيتحول هذا الفرد في قاموس الحداثة (Modernity) الى مواطن (Citizen) والذي سيعلن الطاعة والولاء للدولة (State) وبضمان الفضيلة المنشودة بما عرف حديثا بدولة المواطنة (State of Citizenship).
قد يأخذ الديمقراطية في إعتباره مصلحة الكثرة لا القلة بيد إنه ليس بقادر على حسم الجدلية المثارة حول دكتاتورية الأكثرية ضد الأقلية. وبرغم الإنتصارات الباهرة التي حققتها الديمقراطية الرأسمالية التمثيلية في السبعين سنة الأخيرة كفكرة بارعة للحوار من أجل تعايش حضاري ما بين الإضداد ضمن المجتمع البشري ألا أن شهر العسل الذي جمعها كقوة سياسية مع الليبرالية (Liberal Democracy) يبدو قد شارف على النهاية. فهنالك تصدع واضح وشرخ بدا واضحا تحت وطأة الهيمنة الرأسمالية ما بين فكرة الليبرالية (Liberty) والمساواة (Equality). فإذا كانت المساواة جوهر الجمهورية أو الديمقراطية حسب رأي الفيلسوف إسبينوزا فإن حب البلاد يشمل بالضرورة حب المساواة. إلا أن العدالة السياسية التي غالبا ما يتغنى بها المرشحون في الديمقراطية الحديثة بدأت تتهاوى أمام حقيقة إتساع الهوة ما بين الأغنياء والفقراء. ففي كتابه الأخير (Super Capitalism) يقر البرفسور الأمريكي Robert B. Reich بأن الهيمنة الرأسمالية في إنعطافاتها الحديثة لم تعد تخدم الديمقراطية. والذي يعزز تماما ما توقعه المؤرخ الألماني O. Spengler في كتابه الشهير (The Decline of The West) بأن الديمقراطية ومن خلال المال ستصبح القوة المدمرة لنفسها وذلك بعد أن تحطم سطوة المال الفكر (Intellect). والمأخذ الثاني للقوة السياسية لفكرة الديمقراطية (ورغم كونها حسب رأي الفيلسوف إسبينوزا أقرب النظم الى الطبيعة) إلا أن نجاحها من أن تجعل من حرية الرأي والتعبير والحوار أفضل طريقة حضارية لمعايشة الآخر لم تمهد ومنذ نشأتها في كيفية التعايش ما بين الأمم والطبيعة مما أدى الى إشكاليات الصدام الحالي مع نظام البيئي للكوكب الحي (Nation Vs. Nature). ولعل ذلك قد يقودنا الى حكمة الشرق المتألقة في أقوال (Medo Qatha) للمعلم الأول زرادشت حينما دعى الى المعايشة مع الطبيعة ضمن مبادئه (Arta) والتي توجب النظام والحقيقة والعدالة. كما أن الإدعاء بأن أثينا هي مهد الديمقراطية الأول قد يتداعى حينما نجد أن مفهوم فكرة الديمقراطية تبدو أكثر تأصلا في وجدان معظم أمم الشرق متمثلة في المقولة الحكيمة من أن صوت الأمة هو تجسيد لصوت الرب بل وحتى نجد صداه لاحقا في المقولة الفرنسية (Vox populi, vox Die ).
بعد هذه المقدمة التحليلية من الضروري بمكان أن نتسأل عن مصير العملية الديمقراطية في مجتمع كوردستان والذي عاش ولا زال يعيش ضمن ثقافة وسطوة الأبوة المطلقة (Father Family) والعشيرة المتأصلة في عموم الشرق. أضف الى ذلك أن الكورد عانوا ولا زالوا يعانون من سطوة السلطة المركزية هنا وهنالك وبما يعرف بإستبداد دولة السلطة (State of Authority). وأمام الإستبداد المطلق هذا فلا يجب أن نغفل دور العشيرة ومهما كانت ضعيفة في أن تكون الملاذ الآمن لأفرادها. في كتابه الأول عن الطبقات الإجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية في العراق يؤرخ لنا االباحث حنا بطاطو التركيبة الإجتماعية لكورد العراق كونهم من الفلاحين غير العشائريين والذين يسمون "غوران" أو "رعية" أو "مساكين" والذين يبدون مختلفين تماما عن الأغوات: الملاك ووكلائهم ومحاربيهم العشائريين. وذاك وصف قد ينطبق بدقة حول تركيبة مجتمع أثينا وكيف بدأت الديمقراطية فيه لمشكلة إغريقية محلية جدا قبل ألفين وخمسمائة عام مضت. إلا أن المفارقة تكمن وللأسباب أعلاه بأن السنابل الذهبية للديمقراطية لم يشاء لها أن تنبت في كوردستان إلا بنهاية القرن الماضي والذي بدا حبلى بالتغييرات السياسية والإجتماعية والإقتصادية وحيث بادر الكورد بدق أبواب القرن الحادي والعشرون بقوة غير معهودة. ولو تعمقنا أكثر مع البرفسور Mehrdad Izady في كتابه عن أصل الكورد فيبدو بأن كوردستان قد مثلت أقدم بوتقة إنصهار لسكان سلسلة جبال زاكروس- طوروس في 9000 ق.م. والذين إندمج معهم لاحقا الحوريون (Hurrians) القادمون من قوقاس في 4300 ق.م. وتبع ذلك إنصهار الميتانيين (Mittanis) معهم والذين قدموا من الهند في 2000 ق.م. ومن ثم الميدين (Medes) والذين قدموا من أقصى شرق بلاد فارس في 1200 ق.م. وأنتهى ذلك المزيج كله الى مكون شعب الكورد وهو ما عرف باللغة البابلية ب (Kardaka) أو (Qardu) والأسم (Qarduim) الذي أتى على ذكره في التلمود. . وسبق ذلك كله ذلك التحول التأريخي لأهل زاكروس الأصليين في إبتداع مهنة الرعي في 9000 ق.م. أعقبه إبتداع مهنة الزراعة البدائية في 8000 ق.م. في قرية جارمو الشهيرة. ولعل كل ذلك قد يفسر لنا تلك التركيبة الإجتماعية-الإقتصادية لقرى وأرياف كوردستان اللاحقة والتي أتى على وصفها حنا بطاطو. وإذا ما أتفقنا على أن الديمقراطية هي ثقافة المدينة بحق فمن المنطقي ان نفهم أسباب تأخر ظهور فكرة الديمقراطية في المجتمعات الريفية في كوردستان والتي بقيت ترزح تحت سطوة ثلاثية الأبوة المطلقة والعشيرة ودولة السلطة. ورغم ظهور إمارات كوردية مثل إمارة بابان وسوران وبادينان سابقا هذا ورغم تكدس الكورد في مدن كبيرة حديثا إلا أن الديمقراطية هي الوليدة اليافعة والتي أطلت أخيرا على الجميع شاؤوا أم أبوا.
يبدو ومن المنطقي التكهن بأن الإشكالية التي قد تواجه عملية السعي لإنشاء الدولة القومية المعاصرة (Nation Statism) للكورد والتي أنكرتها حينها على الأكراد مجموعة الدول المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى هو أن الدولة القومية لم تعد الخيار الأمثل الآن حتى بالنسبة للدول الأوربية صاحبة الفكرة نفسها وذلك بعد أن أندمجت حديثا في إتحاد أوربي قائم على قاعدة إقتصادية بحتة. يضاف الى ذلك تحديات العولمة الراهنة والتي تقودها الرأسمالية العظمى (Super-Capitalism) والتي بدأت تدير ظهرها تدريجيا للديمقراطية حسب الإستنتاجات أعلاه للبرفسور .Robert B. Reich وأمام معظلة بهذا القدر من التعقيد لنا إن نتسأل عن خيارات التجربة الديمقراطية وفلسفة الدولة المرتقبة في كوردستان؟ مما يحتمان قدر كبير من التأمل والقراءة الدقيقة لجملة من التحديات والفرص المتاحة في هذا السياق. في البداية علينا الإقرار وبتفاؤل معقول بعدم وجود صدام ثقافي (Clash of Culture) ما بين قيم ورؤى مجتمع كوردستان والديمقراطية الغربية. إضافة الى أن الممارسة الديمقراطية في كوردستان العراق وضمن مفهوم النظام الفيدرالي الجمهوري كان مصدرها ذلك الطموح السياسي للكورد وذلك للخروج من جحيم دولة السلطة المتأصلة في فلسفة الدولة المركزية في بغداد. وهو طموح مشروع لشعب كوردستان والذي حرم من توزبع عادل للسلطة والثروة ومنذ تأسيس دولة العراق الحديثة.
بيد أن الإشكالية التي تواجه الكورد في سعيهم الحالي لتبني الديمقراطية كفكرة هو ما يؤحذ على الكورد بأن ممارسة الأحزاب السياسية للديمقراطية في كوردستان قد إتسم بالحدة مما لم يترك قدرا معقولا من الإتفاق على أرضية مشتركة (سواء في الأهداف أوالوسائل) لتعايش السلطة والمعارضة معا وبتقليل الهوة في الرؤية السياسية بينهما. فالخلافات القائمة بين الأحزاب المحلية وبذريعة الفكرة المجردة للديمقراطية هي أقرب ما تكون الى حالة ساطعة من المبالغة الأيديولوجية مما يثير المخاوف من إبتلاء القوة السياسية لهذه الديمقراطية بداء العداء الكامن القديم (Enmity within) والذي حال دون وحدة الكورد عبر أحقاب من التأريخ القديم والحديث. التحدي الآخر هو في الإشكالية الحالية من عدم قدرة أصحاب القرار (Loyalty) للقيادات السياسية في كوردستان من القيام بتعبئة حقيقة لقدرات (Capability) النخبة المتعلمة صاحبة الخبرة والمعرفة سواء في إقامة البنية التحتية للقرار السياسي أو القوة الصلبة للبلاد (Hard Power). مما لم يمهد للمعايشة المطلوبة (Co-Existence) بينهما والمعتمدة أصلا لبناء الدولة الحديثة في العالم المتمدن. فرغم أن الكورد قد قد بلغوا درجة معقولة من الإدراك الذاتي (Self-Realization) والذي وضعه الفيلسوف هيكل كمحك للفكرة القومية ورغم أنهم أبلوا في نضالهم المسلح لنيل الحرية والكرامة إلا أن نضالهم اللاحق بما يسمى ب " نضال القلم" في بناء الدولة يحتم المعايشة المطلوبة بين الولاء والقدرات المعرفية. ففي الوقت الذي تزخر فيه كوردستان بالموارد الطبيعية الغنية فمنطق إقتصاد السوق يقتضي دمقرطة التنمية الإقتصادية ما بين نخبة الولاء ونخبة الخبرة والمعرفة وذلك تمهيدا للتعايش والتكامل الإقتصادي المطلوب مع دول الجوار في زمن العولمة ومما يحتم التعبئة المطلوبة للقدرات الذاتية والبشرية في كوردستان وذلك لإدارة هذا الغنى باسلوب علمي ومن منطلق التنظيم الإقتصادي. وعند تحقق ذلك فقط فللكورد أن يطمأنوا بأن عجلة التقدم قد إستقرت على السكة المعتمدة في الدول المتقدمة والمتكونة من قدسية القانون وهيبة العلم.
إن شكل الحكم الذي يستخدم في وصفه عبارة الديمقراطبة في كوردستان اليوم مطموس المعالم أكثر منه توضيحا. ففضيلة الديمقراطية حسب رأي إسبينوزا أشد فعالية في السلم مما عليه الحال في الحرب. وبداية وفي أي تصنيف لمجتمع كوردستان فممكن تصنيفه ضمن مجتمعات ما بعد الحروب (Post-Conflict Societies). وهو ما يوحي بولادة غير يسيرة للديمقراطية السياسية وحيثما يميل التوازن ما بين الحقوق والواجبات بالنسبة للمواطن بعدم الإستقرار وذلك لميل المواطن الى السعي لمكاسبه الشخصية كحصة مطلقة بدل الإلتزام بالعمل ضمن مفهوم الحقوق مقابل الواجبات. ويتعارض ذلك قطعا مع فلسفة الدولة الحديثة والتي تحتم مبدأ الطاعة متمثلة في الإيفاء أولا بالواجبات وضمن مفهوم الإتضباط العام. قد لا نملك الإجابة بدقة على حزمة القوانين والترتيبات المؤسساتية المطلوبة إلا أنها يجب أن لا تثير قضايا مثيرة للنزاع في تأويلها ولا تثير خصومات عند تطبيقها. كما أن الضرورة باتت تفرض وضع تعريف واضح لنظام دولة أشد حسما . وسواء استقر الحال على نظام رئاسي أو ديمقراطي تمثيلي برلماني فمن مهام دولة المواطنة هو تاطير واضح للحقوق والواجبات وبما يضمن الإستثمار في المواطن كمصدر للإنتاجية والإبداع وليس كعامل إستهلاك مفرط للموارد الطبيعية. كما أن السلطة السياسية الملائمة لهذا القدر من الطاعة المطلوبة من المواطن تقتضي الحد والتخفيف من سطوتها عبر تقسيم عادل للسلطة ما بين تشريعية وتنفيذية وقضائية ومناطة بجماعة مختارة من الشعب حقا وليس شكليا إضافة الى ضمانات بوجود سلطة الإعلام الحرة. وهذا مع ضرورة إكتساب السلطة والحكم الشرعية على نحو يحوز الحد الأدنى من المصداقية من كامل جسم المواطنين والذين لا بد وأن تشملهم هذه السلطة .
مما لا شك فيه من أن التحول الى مرحلة الديمقراطية التمثيلية ليس بالمهمة السهلة لمجتمع زراعي- رعوي مثل الذي في كوردستان بيد أن التجربة الناجحة للمجتمعات الزراعية الإسكندنافية للوصول الى الديمقراطية التمثيلية تستحق الدراسة والتطبيق مع مراعاة الهوية الثقافية للكورد.
مؤلف
East West: Sword & Word
BoD GmbH
Publishing House,
Germany 2011
Top