• Sunday, 05 May 2024
logo

الفيدرالية والأقاليم: معنًى ومبنًى

الفيدرالية والأقاليم: معنًى ومبنًى
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
الفيدرالية حسب الدستور العراقي، جاءت موسّعة وصلاحياتها كبيرة ومفتوحة، على عكس صلاحيات السلطة الاتحادية التي جاءت مقتصرة على أبواب محدّدة، وفيما لو حصل خلاف بين الدستور الاتحادي والدستور الإقليمي، فإن الأول يخضع للثاني وليس العكس، كما هي الغالبية الساحقة من فيدراليات العالم، وليس بمستطاع قيادة الجيش بما فيه القائد العام للقوات المسلحة نقل أو تحريك قطعات عسكرية من وإلى الأقاليم، إلاّ بموافقتها. وحسب الدستور يحقّ للأقاليم فتح ممثليات لها في السفارات العراقية في الخارج لمتابعة القضايا الإنمائية والثقافية والاجتماعية.
وبالقراءة القانونية فإن مثل هذا الوضع سيكون نواة لدويلة داخل دويلة بغض النظر عن النوايا، طالما ستكون هناك امتيازات وصلاحيات فلا يمكن والحال هذه إلاّ التمسك بها لأنها ستكون " حقوقاً " مكتسبة، خصوصاً وقد تضمنها الدستور، وليس بعيداً عن ذلك "العلاقات الخارجية" و"الاقتصادية" وإشكالات النفط وتوابعه، من الإنتاج إلى التصدير، ومن التعاقد إلى التوزيع، وعلاقة السلطة الاتحادية بالسلطة الإقليمية، سواء بالتنسيق أو بالإشراف أو الموافقة. وقد انفجرت هذه الأزمة منذ سنوات بين الحكومة الاتحادية وبين إقليم كردستان، ولم تجد طريقها إلى الحل لحد الآن، على الرغم من محاولات نزع فتيل الأزمة. وأعتقد أن سبب هذه الإشكالية في الدستور هي في المادتين 111 و112، اللتان تنصّان على:
مادة 111- النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كلّ الأقاليم والمحافظات .
مادة 112- أولاً : - تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المُستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الأقاليم والمحافظات المُنتجة، على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصّة لمدّة محدّدة للأقاليم المتضرّرة، والتي حرمت منها بصورة مجحفة من قبل النظام السابق، والتي تضرّرت بعد ذلك، بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد، وينظم ذلك بقانون.
ثانياً : - تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز، بما يحقق أعلى منفعةٍ للشعب العراقي، معتمدةً أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار .
وإذا كانت الحكومة الاتحادية تدير النفط والغاز من الحقول الحالية، فإن النفط والغاز غير المستخرج تتم إدارته من جانب الأقاليم بالتنسيق والتعاون مع الحكومة الاتحادية، ومثل هذه النصوص كانت وراء تفسيرات وتأويلات مختلفة ومتنوّعة، بل ومتناقضة ولإقليم كردستان تفسيراته، مثلما للحكومة الاتحادية تفسيراتها.
إن تلك الإشكاليات جعلت من مبدأ الفيدرالية أو " الأقاليم" إمّا وسيلة للتحلّل من الهيمنة المركزية للدولة وذكرياتها المؤلمة، وخصوصاً للكرد، لاسيّما في فترة النظام الاستبدادي السابق، ولكنها قد تؤدي بالواقع العملي إلى إضعاف الدولة وسلطتها الاتحادية لحساب الأقاليم، أو اعتبار الفيدرالية بعبعاً مخيفاً، باعتباره طريقاً للانفصال والإنقسام، الأمر الذي سيبقي على المركزية الشديدة الصارمة، وهو ما سارت عليه الدولة منذ تأسيسها، ولاسيّما خلال فترة النظام السابق، بل إن هذا الاتجاه يعتبر أي حديث عن الفيدرالية إنما يصبّ في تقسيم العراق وقد يكون موحى به أو مدفوع الثمن من جهات خارجية مشبوهة. وهكذا يتعامل الفرقاء مع الفيدرالية حسب أهوائهم التي تتراوح بين المقدّس والمدنّس.
وكلا الشعورين ينمّان عن عدم ثقة وعدم وجود فهم مشترك وقناعات موحّدة حول الفكرة الفيدرالية معنًى (أي مضموناً) ومبنًى (أي صياغة)، وترتفع درجة الشكوك في ظلّ وجود هيمنة طائفية وتمييز وتهميش، ناهيك عن الرغبة في الحصول على المزيد من المكاسب على حساب الآخر وتحت تبريرات مختلفة.
الفيدرالية التي رفعت شعارها الحركة الكردية منذ أوائل التسعينيات وأيّدتها قوى يسارية وليبرالية ووطنية بشكل عام، كانت تطويراً لشعار الحركة الوطنية القديم منذ أوائل الستينيات " الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان" ، وذلك في إطار دعوة صريحة إلى تمثيل الشعب الكردي وتمكينه من تقرير مصيره في إطار الوحدة الوطنية العراقية كما اختارها، لكن الأمر لم يقتصر على ذلك، وظهرت مشكلات قديمة وجديدة، بعضها عويص، خصوصاً ما يتعلق بكركوك أو بما سمّي المناطق المتنازع عليها، والتي ورد ذكرها في المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية أو المادة 140 من الدستور الدائم الذي تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول (اكتوبر) 2005، وأجريت الانتخابات على أساسه في 15 كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته.
وكان الدستور الدائم امتداداً لقانون إدارة الدولة التي صدر في عهد بريمر، وقد نُقلت الكثير من مواد الأخير وأحكامه إلى الدستور الدائم، الذي جاء مليئاً بالألغام، بحيث لم يشعر أي طرف بالارتياح، في حين إن الدستور هو تعبير عن الواقع السياسي والاقتصادي ودرجة التطور الاجتماعي ويعكس المصالح والأهداف المشتركة للفئات الاجتماعية المختلفة، لكن الأمر في الدستور العراقي اتخذ منحًى مختلفاً. ولذلك وفي أكثر الأحيان يوضع الدستور على الرف ويتم الحديث عن التوافق والديمقراطية التوافقية خارج اللعبة الانتخابية (كقدر دائم لا مردّ له)، ولكن ما أن تدبّ الخلافات فيتذكّر كل طرف الدستور حتى وإن كان يتعارض تماماً مع ما يقول، لكنه يحاول الاستناد إليه من باب الزعم بتمسّكه باعتباره "أبو القوانين"، حتى وإن كان الأمر شكلياً، ثم يُصار بعد ذلك للعودة لما يسمى بالتوافق دون أي اعتبار لصندوق الانتخاب وإرادة الناخبين.
إذا كانت الفيدرالية الكردية تعبيراً عن حقوق قومية مشروعة ولها ما يبرّرها، وإن النظام الفيدرالي هو صيغة متطورة أخذت بها نحو 40% من سكان الكرة الأرضية، وشملت أكثر من 30 دولة، وأصبحت جزءًا من تطور النظام السياسي العالمي، فإن تطبيقاته في العراق وبصيغته الملتبسة أوجدت تعارضات شديدة بين الفرقاء السياسيين من المشاركين بالعملية السياسية ومن خارجها وعزّزت الشكوك بينهم، خصوصاً وإن العراق عانى من مركزية صارمة وشديدة المراس، وبحاجة اليوم إلى لا مركزية وتوزيع الصلاحيات، لكن تفسيرات وتطبيقات وتأويلات هذه الفيدرالية جاءت متناقضة وملتبسة من جانب العديد من الجماعات السياسية.
فالقوى التي رفضت التصويت على الدستور لأنه يتضمّن مبدأ الفيدرالية، عادت واندفعت لقيامها تحت حجة عدم استفراد القوى الشيعية بالحكم وعزل وتهميش السنّة، وتلك واحدة من مفارقات الحياة السياسية العراقية ما بعد الاحتلال، وفكرة الأقاليم بما فيها " الإقليم السنّي" التي عارضتها وتحفّظت عليها الكثير من القوى، بدت وكأنها " مقبولة" ، حيث أعيد طرحها بعد احتلال داعش الموصل وخصوصاً بعد تشكيل الحشد الشعبي ودخوله المناطق ذات الأغلبية السنّية وما ترك ذلك من اتهامات له بانتهاكات وردود أفعال ومخاوف بشأن مستقبل هذه المناطق.
والقوى الشيعية التي كانت متحمّسة للفيدرالية بعد الاحتلال، بدأت تتحفّظ عليها لا في المبدأ فحسب، بل في التطبيق أيضاً، ولذلك وجدنا كيف تعامل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بقسوة مع المناطق الغربية والشمالية ذات الأغلبية العربية السنية المطالبة بالفيدرالية، وكيف كانت النتائج: هيمنة داعش وجزع فئات واسعة من السكان دفعها لعدم اتخاذ موقف من استيلاء داعش على الموصل وكأن الأمر لا يعنيها، ولكن بعد حين شعرت هذه الفئات بخذلانها، إثر هيمنة داعش وفرضها نظاماً سياسياً واجتماعياً ودينياً متشدداً ومتعصباً خاصاً بها وخارج سياق التطور التاريخي.
أما الكرد فإنهم ينتظرون الفرصة السانحة للتعبير عن كيانيتهم المستقلة، ويريدون قبل ذلك تحقيق أكبر المكاسب تمهيداً لإعلانهم، خصوصاً إذا ما توفّرت اللحظة المناسبة، وحصلوا على تأييد دولي وموافقة إقليمية ضمنية بعدم معارضة ذلك، علماً بأن مبدأ حق تقرير المصير يشكّل المنطلق القانوني والدولي لمشروعهم التاريخي.
وإذا كانت دولة ما قبل الاحتلال تتّسم بالشمولية والواحدية والإطلاقية واحتكار الحقيقة وتمجيد الفردية ونهج التسلّط، فإن دولة ما بعد الاحتلال انتقلت من التعثر في وحدتها إلى استفحال الأزمة بخصوص حاضرها ومستقبلها، لاسيّما في ظل الارتفاع السريع في وتيرة عوامل التفكيك والتشظي والتفتّت.
وشهدت البلاد احترابات داخلية وإرهاب وعنف منفلت من عقاله، ناهيك عن استمرار النفوذ الخارجي، سواء على شكل اتفاقية للتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ العام 2008، مع إن محاولات إبرام اتفاقية أمنية جديدة بعد نفاذ الاتفاقية الأولى في نهاية العام 2011 باءت بالفشل، الاّ أن النفوذ الأمريكي لا يزال واسعاً ومتحكّماً ويظهر دوره في الأزمات والمنعطفات التي تمرّ بها البلاد، خصوصاً في ظل وجود اتفاقية مجحفة وغير متكافئة بين بغداد وواشنطن حسب اتفاقية فيينا حول " قانون المعاهدات " لعام 1969، حيث تم تغيير صفة الاحتلال، من الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي.
يضاف إلى ذلك النفوذ الإيراني القوي والمؤثّر، سواء على صعيد الحكم رسمياً أو على صعيد العلاقة مع قوى أساسية في الحكم، وهذا النفوذ لم يعدّ خافياً أو مستتراً لا من جانب بعض القوى العراقية، ولا من جانب إيران،، فخط دفاع طهران كانت بغداد منذ احتلال العراق العام 2003، وإيران كانت ولا تزال تلعب دوراً إقليمياً كبيراً في العراق ولدى بعض دول المنطقة، وقد يتعاظم هذا الدور بعد التوصل إلى اتفاق بشأن الملف النووي الإيراني بعد مفاوضات دامت 12 عاماً وعرفت باسم (5+1)، على الرغم من محاولة تطويقه عربياً ودولياً من جانب بعض دول الخليج العربي والولايات المتحدة والغرب عموماً.
Top