• Monday, 29 April 2024
logo

خصائص التأويل المعاصر

خصائص التأويل المعاصر
يعتقد صاحب "الكلمات والأشياء" أن اللغة لم تكن عند مفكري ماقبل النهضة الأوروبية لِتُشكل مجموعة من الرموز المستقلة المنتظمة بحيث تنعكس فيها الأشياء كما لو كانت تنعكس في مرآة كي تُفصح كل علامة عن حقيقتها الفردية. كانت اللغة قد وضعت في العالم لِتُشكل جزءا من أجزائه، ما دامت الكلمات تعرض نفسها على الإنسان كما لو كانت أشياء ينبغي تفحّصها والتنقيب فيها. لقد كانت العلاقة التي تربط الإنسان بالكلمات والنّصوص هي العلاقة ذاتها التي تربطه بالأشياء. فسواء أتعلق الأمر بالكلمات أم بالأشياء فإن الإنسان كان أمام علامات وآيات وأمارات. لذا فإن المعرفة لم تكن إلا تفسيرا وتأويلا، أي انتقالا من العلامة الظاهرة إلى ما يقال عن طريقها، وما تعبّر عنه "وإلى ما يظل بدونها كلاما أخرسَ راقدا في الأشياء".
كانت اللغة إذن تسبح في عالم منغلق على نفسه، يستعيد دون هوادة لعبة الإنعكاسات، ويحكي بلا توقف أسطورة التشابه والتطابق. صحيح أن اللغة لم تكن هي الصيغة الوحيدة للكلام. فهناك أشياء تتكلم من دون أن تكون لغة، بل إن جميع الكائنات تتكلم حتى وإن ظلت صامتة، وثمة على سطح الأرض وفي أعالي السماء عناصر لا تفتأ تتكلم دون أن تتلفظ الحروف والكلمات. الطبيعة "كتاب مفتوح". بل إن الكون كله قد تحوّل مباشرة إلى نص مكتوب، وأصبح فضاء سيميائيا مسكونا بصوت الماضي وآثار التراث.
نتفهم جيدا أن تكون المعرفة هنا تفسيرا exégèse بالمعنى الذي تفيده السابقة ex في اللغة الفرنسية، أي الاستخراج والكشف عن المستور. ذلك أن الكلمات إذ تتكلم فلِتعني غير ما تقول، ولِتظل أمارات وآيات وعلامات، تُضمر وتُحيل في الوقت ذاته إلى ما تنطوي عليه. فلا مفرّ من تفسير وتأويل لمعرفة بواطنها ومضموناتها، والكشف عن معانيها "الخفية". وهذا التأويل كان يتحدد بمنطق التشابه، فكانت تقنياته تقوم على تحديد جميع الأنواع الممكنة للتشابه، فمادامت الأشياء "يعكس بعضها بعضا"، فحيثما كانت تتشابه، كان هناك معنى.
لا نستطيع أن ننكر أن المعرفة المعاصرة هي أيضا تأويل. وفوكو نفسه يؤكد "أننا ، وابتداء من القرن التاسع عشر، عدنا إلى الاعتقاد بأن الحركات الخرساء والأمراض وكل الأشياء التي تضج من حولنا، يمكنها أن تتكلم. ونحن نصغي أكثر من أي وقت مضى إلى هاته اللغة الممكنة محاولين أن نعثر من وراء الكلمات على حديث أكثر أهمية". بل إننا ربما ذهبنا في ذلك أبعد مدى، فغدونا نرى الأهمية الكبرى بالضبط فيما يبدو بعيدا عن الأهمية وعن المعنى. إلا أننا لم نعد نقصد بهذه العودة إضفاء معان جديدة على أشياء لم يكن لها معنى، وإنما عدنا إلى التأويل لنغيّر طبيعة الدليل، ونبدّل الكيفية التي كان يُؤَوَّل بها. فلم يعد الأمر يتعلق بالبحث عن التراسلات والتناغمات والتشابهات. والأهم من ذلك أن التأويل لم يعد بحثا عن معنى خفيّ، لم يعد كشفا عن باطن، وتقصيا لمعنى أول، واستقصاء لأصول، بالمعنى الشرَفي والكرونولوجي، وإنما صار يعني إعطاء أولويات وأسبقيات لمعنى على آخر. فعوض مبدأ التشابه وسيادة التطابق، حل التفاوت والاختلاف. وهذا ما يعبر عنه فوكو عندما يقول إن العلامات لم تعد تتوزع بكيفية متجانسة وإنما أصبحت "تندرج في مكان متفاوت الأجزاء، وحسب بُعد يمكننا أن نطلق عليه بعد الأعماق، شريطة ألا نفهم من هذا، البعد الباطني وإنما بعد العمق الخارجي". هذا السطح العميق، أو العمق السطحي على حد تعبير نيتشه، يجعل التأويل المعاصر يبتعد عن كل تأويل ينحل إلى شرح وتفسير وكشف عن البواطن، وينفصل ثانيا عن أحادية المعنى وأوَّليته وواحديته، وينفتح ثالثا على آفاق لا حصر لها، مما يجعله تأويلا لا نهائيا. غير أننا لا ينبغي أن نفهم هذه اللانهائية وذلك الانفتاح في اتجاه المستقبل فحسب، وإنما حتى في الاتجاه المعاكس. ذلك أن الفكر الحديث عندما يجزم بلا نهائية التأويل، فلا ليثبت فحسب تعدديته، وإنما أساسا عدم انطلاقه من لحظة صفر للمعنى، عدم انطلاقه من محو للمعاني، من "درجة صفر للدلالة". إذ أننا مهما تراجعنا القهقرى فلن نجد إلا تأويلا أعيد تأويله، ولن نقف أبدا على الكائن في عرائه ولا على أي "معطى أول"، أو معطى خام كما يقال عادة.
ما يميز التأويل الحديث عن التأويل الميتافيزيقي إذاً هو أن الأول لا يخوض عملية التأويل لأن هناك علامات أولية غامضة، وإنما لأن هناك تأويلات. فلا تعود اللانهائية إذاً لكون التأويل ينصب على "مادة" صعبة المنال، عسيرة الفهم، "غيبية" الدلالة، وإنما، بالأوْلى، لأنه لا ينصب على "شيء". إذا لم يكن في استطاعة التأويل أن يكتمل فذلك لعدم وجود ما يُؤَوَّل. فليست هناك درجة صفر للتأويل و"كل علامة لا تشكل في ذاتها الشيء الذي يعرض نفسه للتأويل"، لا وجود للمُحَال إليه Le referent. كل محال إليه يُحيل هو بدوره، أي أنه يدل ويعني signifie.
ثم إن التأويل لا نهائي لأنه لا ينصب على علامة عزلاء تعطي نفسها بشكل انفعالي، وإنما على تأويل آخر متعنث يحاول أن يفرض نفسه بشكل فعَّال. ذلك أن التأويل لا يجد أمامه معطى خام، لا يلفي المجال خاليا، وإنما عليه أن يخلي المكان ليفرض ذاته، عليه أن يكتسح المجال، أي أن يعلن الحرب على ما سبقه ومن سبقه، هناك "نضال طبقي" في مستوى العلامة. فالعلامة لا تتحدد منطقيا، ولا يكفي لتعريفها حدّها المنطقي. إنها تنطوي على فائض من المعنى، "فائض سيميولوجي"، أي أنها لا تعطى حتى لنفسها، وبالأحرى لغيرها. كل هذا يجعل علاقة التأويل بغيره دوما علاقة عنف وغزو واكتساح.
وهذا العنف يمارس في أكثر من اتجاه، إنه قوة ومقاومة، قوة تسلط على ما قبله، ومقاومة توجه إلى ما بعده. والماقبل هنا ،كما المابعد، ليس زمانيا ولا مكانيا، وإنما جنيالوجي، إنه يشير إلى القوة الكامنة خلف كل تأويل. فحرب التأويلات تجعل التأويل لا ينصب على تأويل آخر، وإنما على "المجهول الذي قام بالتأويل". التأويل، كما يقول نيتشه، هو البحث عـ "من"، عن الذي يعطي للأشياء قيمتها ومعانيها، بل عن الذي يسعى لأن يفرض على الأشياء معانيها و "طبائعها".
هذه اللانهائية التي يتسم بها التأويل المعاصر تنعكس على المكان الذي يحيا عليه، وعلى الزمان الذي يعيش فيه. فالعلامات لا تتوزع، في التأويل المعاصر، بكيفية متجانسة. إنها كما قلنا لا تخضع لمنطق التشابه والتجانس والهارمونيا، بل تتدرج في مكان متفاوت الأجزاء. كما أن هذا التدرج لا يتم حسب جميع اتجاهات المكان، بل حسب ما يطلق عليه نيتشه بُعْدَ "العمق الخارجي". من هنا يستمد مفهوم "الظاهر" كل "عمقه" في التأويل المعاصر. ومن هنا تعتبر الأعماق ثنايا سطوح plis. ثم إن اللانهائية تمنع عن زمن التأويل المعاصر أن يكون زمن الأجل المحدود. لكن لا يعني ذلك أنه زمن الجدل، الذي هو زمن خطي تقدمي. إن زمن التأويل المعاصر زمن دائري، زمن التكرار والعود الأبدي الذي لا يعني عودة المطابق.
هذا الصراع بين التأويلات، وهذا التكرار اللامتناهي، وذاك التدرج في المكان المنثني، وذلك التراجع الذي لا يتوقف عند "شيء" يُؤَوَّل، كل ذلك يجعل التأويل المعاصر لا نهائيا لا ينطلق من درجة صفر المعنى، ولا ينتهي عند اكتمال.
Top